خمسة أيام في الأسبوع ذهابا وإياباً نمر عن حاجز زعترة اللعين، حيث يكون "أولاد العم" الشرسين منتظرين في المحطات الثلاث المنتشرة في منطقة الحاجز، ثمة صبايا يهوديات صغيرات في السن يلبسن التنانير القصيرة، فتبدو سياقنهن البيضاء والسمراء، نأخذ باستغابتهن واشتهائهن ونتذكر عهد السبايا البائد، وكيف ستكون هذه أو تلك سبية ننعم بها لو دارت الأيام وانتصرنا. أعود وأتراجع إذ لا يحسن بنا أن نسبي نساء "أبناء العم"، حتى وهن جميلات وشهيات.
في هذا الصباح ثمة جندي ومجندة يقفان كحارسين في واحدة من المحطات المركونة على يمين الشارع الرئيسي، المجندة تتحدث بطلاقة وتشير بإحدى يديها واليد الأخرى على الزناد، والجندي الذي لا "يحلم بالزنابق البيضاء" ينصت باهتمام. قلت في نفسي: "كأنها تتحدث حديثا خاصا، ربما كانت تتحدث بأحاديث حميمية عن ليلة حمراء ما زالت روائح شهوتها عالقة على جسدها الأسمر النحيل. سألتُني: "ولماذا أفترض أنهما يتحدثان بأحاديث ماجنة؟" فأجبت نفسي بسخرية: "لأننا سفلة". هل فعلا نحن سفلة، والعرب لا يعرفون غير هذه الأحاديث؟ ألا يتحمل "أبناء العمومة" أوزارهم التي يحملوننا إياها؟ فلو لم يحتلوا بلادنا لم نفكر فيهم هذا التفكير الأبله؟ ما لنا وما لهم؟ لماذا يصرون على أن يكرهونا أكثر، ونكرههم بلا حد؟ فهل علينا من حرج لو انتقمنا منهم بنسائهم على طريقة مصطفى سعيد في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال"؟
قلت وأنا ساه لاه: "لعلها جريمة مضاعفة أن تفكر باشتهاء امرأة صهيونية ومجندة إسرائيلية تحمل أفكارا عنصرية غير إنسانية، وتستبيح الدم الفلسطيني بأقل من ثانية وتكون على أتم استعداد لاقتناص الضحايا.
تعود إلى الذاكرة كتابات كثيرة عن اليهوديات وحضورهن في الأدب العربي والرواية الفلسطينية، و"إشكالية الأنا والآخر" في ما كتبه المتوكل طه في كتابه "رمل الأفعى" عن السجانة السوداء الوحيدة في معتقل النقب الصحرواي. وكيف كان يفكر بها الأسرى في هذه الصحراء القاحلة الخالية من الماء والخضرة والوجه الحسن. إذ تبدو على ما هي عليه من دمامة أجمل ما يكون، فهي كل النساء في تلك الصحراء اللاهبة، على الرغم من عداوتها في سياق الاحتلال وظروف السجن الذي يعطي الصحراء دلالة مكثفة وقاسية.
وكذلك ما كتبته عائشة عودة في كتابها "ثمنا للشمس"، عندما لعبت مرة مع الممرض "يودا" التنس في سجن غزة، ورمقها بنظرة انتزعت كامل أحشائها، واعترض عليهن الشباب في القسم المقابل عندما علموا بالحادثة، فأخذتهن العزة، فكيف يسمح هؤلاء الشباب لأنفسهم أن يكونوا أوصياء عليهن؟ وكانت الأسيرات يملن إلى السجان بعاطفة مكتومة يفضحها السرد والأحاديث البينية، وتأخذ الأسيرات بالمقارنة بين مديرة السجن السابقة القاسية "ريا" وبين المدير الجديد الألطف منها شكلا وتعاملا.
وبالطبع ستقفز قصيدة محمود درويش عن "ريتا" اليهودية، محبوبة الشاعر الأولى:
"بين ريتا وعيوني بندقية
والذي يعرف ريتا ينحني
ويصلي
لإله في العيون العسلية"
هل ستكون كل يهودية إسرائيلية صهيونية هي ريتا وكلنا عشاقا محتملين؟ ها هي ريتا الحديثة تتمسك بالزناد على حاجز زعترة وعلى كل حاجز، وبيننا وبينها غابة من البنادق وأنهار دم، لكنها لم تمنع أفكارنا من أن تتحرش بجسدها، فنستبيح هذا الجسد ونصبح كالراوي العليم نعلم بما تفكر فيه، دون أن نقترب منها وسيظل لحمها ورائحة دمها محرماً علينا حرمة أبدية سياسية وعرقية ودينية، على العكس من لحمنا ودمنا المتاح لها ولزملائها وزميلاتها بسهولة وسرعة كلما اهتاج بهم الحنين ليأخذوا حصتهم من دمنا ويذهبوا إلى نومهم حالمين، ونذهب نحن إلى صور شهدائنا ناقمين على ما نحن فيه من بؤس وهدر كرامة واستباحة دم.
وتبقى ريتا هي ريتا، و"جسم ريتا كان عرساً في دمي" كلما مررت عن حاجز عسكري تقف عليه مجندة إسرائيلية مهيأة لتغتال في الصباح زقزقة العصافير إن اشتهت لرائحة الدم العربي، أسأل نفسي لو حل السلام بيننا وبين "أولاد العمومة": هل ستكون محبوبتي الأخيرة امرأة أخرى وبالصدفة يكون اسمها ريتا؟ ساعتئذ سأكون عاشقا مختلفا، وستكون ريتا امرأة جميلة تضع يدها على كتفي لتشرب نخب دمي الحلال، ولن يكون للحاجز أي معنى أو قيمة.
فراس حج محمد/ فلسطين