هل يوجد يسار صهيوني تقدمي في إسرائيل؟ ربما، وماذا إن وجد؟
دعت جريدة "هآرتس" في افتتاحيتها المنشورة في السادس والعشرين من يونيو/حزيران الفائت إلى انتخاب النائب أيمن عودة رئيسًا للمعارضة البرلمانية في الكنيست؛ كردّ مناسب، حسب رأي محرّرها، على استنهاض بنيامين نتنياهو لمنتخبيه في الانتخابات الأخيرة، وتحريضه السافر على العرب الذين "يتدفقون إلى صناديق الاقتراع"؛ وما عكسه هذا التحريض من ارتفاع خطير في منسوب العنصرية وتفشيها في الحياة العامة الإسرائيلية، وممارساتها الاقصائية ضد المواطنين العرب، تستهدف انتزاعهم من "أحشائها" واعتبارهم فاقدين لشرعية الوجود في "الدولة اليهودية" ولحقّهم في مزاولة نشاطاتهم السياسية والاجتماعية فيها.
ووفقًا لجريدة "هآرتس" فإنّ هذه "المواجهة" ستكون ضرورية، ليس لأنّ أيمن عودة يمثل قيم "السلام والديمقراطية والمساواة" فحسب، بل بسبب فشل زعيم المعارضة المنتهية ولايته، يتسحاق هرتسوغ، الذي لم يقدّم بديلًا أيديولوجيًا أو عمليًا لحكومة اليمين ولسياسة نتنياهو.
لم يستثر هذا المقترح اللافت فضول السياسيين العرب، فهؤلاء، ومثلهم أتباعهم، يعيشون في عوالم من المفاهيم السياسية المُقوْلبة والمتخثّرة، التي لا تتأثر بأي مجازفة مشاكسة، أو فكرة جديدة، أو مبادرة "مورّدة" من خارج أسواق الاستهلاك الحزبية المحلية؛ ولا تعتمد على قواميس المواجهات الدارجة، بل تلتزم بفنون قتال "قبلية" موروثة ومدعمة "باشراقات" و"غزوات" جيوش "الفسابكة والتويتريين" العرب المندفعين من على ظهور "خيولهم" العصرية.
يحاول البعض أن يفسّر صمت القيادات العربية الواضح، وإعراضهم عن المقترح المذكور، بما يستبطنه هؤلاء القادة والنخب من مواقف عدائية تجاه أيمن عودة، رفيقهم وزميلهم في القائمة المشتركة، لاسيما وقد ظهرت هذه العدائية، مثلًا، بشكل أوضح، عندما اعترض هؤلاء الساسة والمعلقون على مبادرته في إقامة جسم/جبهة ديمقراطية عربية – يهودية واسعة لتقف في وجه فاشية الدولة المتنامية وضد الممارسات العنصرية للحكومة، التي لا تخفي أهدافها وما تخططه بحق المواطنين العرب ومؤسساتهم القيادية والتمثيلية في إسرائيل.
لم تنجح الأحزاب والحركات السياسية العربية في مواجهة أسباب ضعف القائمة المشتركة، ولا في اتخاذ ما يكفل استعادة أدوارها المأمولة، ولن أتطرق في هذه المقالة إلى دواعي ذلك القصور، أو إلى أسباب فشلهم في إنجاز هذه المهمة المصيرية، فقد بات واضحًا، بعد هذه السنين، أن هذه القيادات ذاتها لم تستطع تطوير جوهر "المشاركة" في اطار سياسي جديد، وتحويله من مجرد جسر إنقاذ يساعدهم على عبور مرحلة طارئة وفارقة، إلى "موديل" مستحدث في أنماط القيادة الجماهيرية المحلية، القادر على تصريف وضبط "شؤون البلاد ومصالح العباد" وعلى حماية المجتمع من أعدائه الخارجيين والداخليين.
لقد حذّرنا من جدية وعمق الخلافات بين التيارات السياسية المختلفة، والأحزاب والحركات الدينية السياسية الناشطة بين الجماهير العربية في إسرائيل، وأشرنا إلى وجود كمّ من بذور المناكفات والعداوات الشخصية والمبدئية الموروثة، التي نمت في صدور القادة وعقول أتباعهم، وعششت في غابات مصالحهم الحزبية وفي دهاليزها العمياء، وعبّرنا عن خوفنا على مصير هذه التجربة وضياعها؛ إلا إذا تمّ تذليل أبرز العثرات البنيوية وإزالتها، بمساعدة نقاشات جوهرية وتقديم تنازلات متبادلة وبمسؤولية، وانخراط جميع الفرقاء بنوايا سليمة وبوفاء للأهداف، من دون تربّص و"استغفاء".
كانت محاور الخلافات بينهم وما زالت كثيرة، وأهمها برأيي، ذلك التباين في الموقف من طبيعة الدولة وتعريف علاقتنا بها كأقلية، وكذلك اختلافاتهم المعلنة حول وسائل النضال المجدية ضد السياسات العنصرية، وتحديد سلم تحدّياتنا كمواطنين نواجه أخطارًا وجودية وحياتية على حد سواء. كان العمل مع "حلفاء" يهود، أو كما أسمتهم السياسة العربية "باليسار الصهيوني" محطّ خلاف فصائلي مزمن وأساسي؛ فاكثرية التيارات السياسية والإسلامية الناشطة بين العرب في إسرائيل، باستثناء الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، لم تقبل بهذا الخيار، لأسباب عقائدية ودينية وقومية، ونتيجة لنفي نجاعة تلك الشراكة عند آخرين أكدوا، كذلك، على دور بعض الشرائح من هذا اليسار الصهيوني في رسم وتنفيذ سياسة القمع ضد الفلسطينيين بشكل عام، وضدنا نحن الجماهير العربية في إسرائيل. لن ينتهي النقاش حول هذه المسألة مع نهاية هذه المقالة، وستبقى مهمة التفتيش عن حلفاء يهود وغيرهم ديْنًا وعهدةً عند الذين سيضطرون الى الوقوف أمام "دي ناينات" وبنادق الفاشيين الجدد من حكام اسرائيل الكبرى. ولكن ما يؤرّقني في هذه العجالة هو غياب من يمكن أن نسمّيهم بيننا باليسار العربي، فكلما غصت أكثر في "تلابيب" أحزابنا وسبرت برامج حركاتنا السياسية والإسلامية، اقتنعت بخلوّ ساحاتنا الحزبية من تلك القوى اليسارية الحقيقية، أو أنها تكاد تكون خالية؛ وقد تكون هذه الحقيقة هي واحدة من أهم أسباب عدم نجاعة عمل القائمة المشتركة وغيرها من المؤسسات القيادية.
فهل يوجد يسار عربي في إسرائيل؟ ربما، ولكن دلّوني عليه.
لنقف عند أربعة محاور أساسية وندقق في مواقف العرب واليهود ازاءها ولنحكم بعدها من هو اليساري ومن لا. والمحاور هي: المحور القومي، المحور الاقتصادي، المحور الاجتماعي، ومحور حل المسألة الفلسطينية والصراع حولها. فمن يعرّف حزبه كحزب قومي حتى "النخاع" ويؤكد على أن قوميته هي فوق الجميع وأقدس من كل قيمة وشيء، لن يُعدّ يساريًا؛ ومن يمتح شرعية حزبه/حركته من ماء السماء ومن دمها لن يدخل البرلمان وعالم السياسة من يساره؛ ومن لا يؤمن بالمساواة التامة بين الـ"نحن" و"هم" والنساء والرجال والسود والبيض والروس والعجم والعرب، لن يطأ "جنة" اليساريين.
هذه عينات بسيطة من التعريفات الأولية المقبولة في علم السياسة، التي لا يتردّد العرب في تطبيقها على المواطنين اليهود في إسرائيل، وبالأخص على من يعرّفون أنفسهم بالمتدينين القوميين وبالصهاينة؛ ولكن سيصير الأمر عسيرًا أو مستحيلًا إذا ما أتينا لتطبيقها في ساحات العرب، فاليهودي المؤمن بأن أرض أسرائيل الكبرى هي من حقهم فقط، هو متطرف ولا يعدّ يساريًا؛ ومن يؤمن منهم بأن لا مكان لدولتين بين "النهر والبحر" هو متعصب ولن يكون يساريًا؛ ومن يهيم ويتعلق بسياسة الأسواق المفتوحة ويعترض على حق الدولة بالتدخل في اقتصاد السوق، لن يكون إلا يمينيًا ويسعى وراء سوق "خنازيرية" وجني أرباح طاحنة؛ واليهودي المؤمن بأن الرب أوقف هذه الأرض من أجل شعبه المختار فقط، لن يكون إلا متزمتًا ويمينيًا؛ ومن يرفض تحقيق المساواة التامة بين كل الناس وتأمين حريات جميع مواطني الدولة الأساسية، لن يكون الا يمينيًا وعنصريًا.
لا أسهل من صبّ "الغير" في القوالب؛ ولكن هل نستطيع فعل الأمر ذاته مع أحزاب العرب وحركاتهم السياسية والدينية الناشطة في إسرائيل؟ وإذا فعلنا فمن سيبقى منهم معدودًا على التقدميين وعلى أهل اليسار؟ جِدوا لي أولئك، وعندها سيكون بناء قائمة مشتركة معادلًا لإشادة الحصن المنيع، وستصبح بعدها إقامة جبهة مقاومة العنصرية والتزمتية والفاشية، مهمّة بدهيةً ومطلبًا شعبيًا ملحًّا وضرورة انسانية ووطنية .
فيا يساريين اتحدوا
جواد بولس*
كاتب فلسطيني