العزيزة الغالية كفكرة ناضجة وامرأة عبقرية، أسعدت روحا واكتملت حبا وفكرا طيبا متفتحا، أما بعد:
تلتهمني الأفكار فكرة من بعد فكرة. وسؤال تلو سؤال، ولا أحسن الإجابات، ما زلت باحثا عنها تماما كما يبحث الأثريون عن قطع التاريخ المدفونة في أرض ما، وكلما وجدوا أثرا حفزهم للبحث أكثر. هذه هي حالي، لا أهدأ ولا أستكين. ما زلت أقرأ وأقرأ. أثرّت فيّ كثيرا حياة هنري ميلر وأثرّت فيّ من بعده أشعار ت. س. إليوت، قرأته مترجما. ثمة شيء غائب عنا. ما زلنا نبحث عنه. هل سنجده؟ أشك في ذلك.
اطلعت على ما كتبه الصديق رائد الحواري عن الشاعرة جمانة حداد وكتابها الجميل الصادم "هكذا قتلت شهرزاد". صديق لي قال: "أنت أحييت شهرزاد، وجمانة قتلتها"، لذلك حرصت على اقتناء كتابها، عندما وجدته في معرض الكتاب الأخير في رام الله أيار الماضي. كثيرون منا لا يعرفون جمانة حداد، ولا يعرفون أفكارها الصادمة. لماذا تعد أفكار جمانة أفكارا صادمة؟ ربما لأن الناس كما هم لم يتغيروا، ولن يتغيروا.
أتذكر ما قاله المتنبي: "أنا من أمة تداركها الله، كصالح في ثمود"، هكذا كانت جمانة، وهكذا كان صديقي رائد، وهكذا كل طليعي متنور. سيظل الناس على ما هم عليه، يعمهون في التيه، ينطبق عليهم قول القرآن الكريم: "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون". بل إنني أعتقد أنهم لو لم يولدوا مسلمين ما كانوا مسلمين، ولو وجدوا في زمن قريش لكانوا من أتباع أبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة. إلا الشيوعيون فإنهم وحدهم سيكونون أول المؤمنين. لقد ضحك صديقي رائد من قولي هذا وانفرجت أساريره. لماذا الشيوعيون؟ إنهم ومعهم كل العقلانيين من يفكر بطلاقة وحرية دون أن تكبلهم أفكار الآباء والأجداد. فالناس فاسدون جدا هذه الأيام وفي كل زمان.
لماذا أتحدث عليك بهذا الحديث؟ لعلك تذكرين قصة المقال الذي أثار حوله الأغبياء والمتربصون زوبعة فارغة. إن الأمر كما هو، لا أسمع ولا يتناهى إلى مسمعي إلا أنني أتحدث عن النهود والجلود. وما زلت لا أزور مدارس البنات منذ آذار 2013 وحتى آخر هذا العام الدراسي. لقد فقدت بسبب هذه التقوى البائسة أصدقاء كثيرين وعاداني الأنبياء والقديسون الجدد، وامتنعت عن محادثتي وصداقتي صحابيات جليلات. أعود وأنشر مقاطع شعرية أيروسية، فتنتشر بين الجهلة انتشار النار في الهشيم. والتعليقات هي التعليقات، والأفكار هي الأفكار. أي بؤس هذا الذي يعيش فيه الناس؟ أصبحت شاعرا "فاجرا"، "فاسقا"، "ماجنا"، "كافرا"، "ميؤوسا مني".
شاعرة عربية ذات قلم ذهبي ترغب في أن تكتب شعرا أيروسيا فلسفيا، ولكنها لم تستطع نشره، تخاف مما أنا لست بحافل فيه. هل ستنشره باسم مستعار؟ تخيلي لو أنها تنشر شعرا أيروسيا فلسفيا باسم مستعار. شاعرة وكاتبة عربية في القرن الواحد والعشرين تكتب شعرا باسم مستعار. ما التقدم الذي جناه المجتمع؟ ليس بمقدورها أن تجابه أو تقاوم أو تصمد أمام التيار الصاخب اللاهب، كما فعلت جمانة حداد، كتبت، قاومت، جابهت، وانتصرت أخيرا في معركتها التي كانت طاحنة. مع أنني لست موافقا لها في كل ما قالته إذ خلطت الحرية في الكتابة والتصرف والمعتقد بالإلحاد الفظ. لكنني بالتأكيد معها حول ما كتبته حول الحرية وحرية التعبير عن كل ما يخطر ببال الأديب وضميره، فلولا الحرية لم توجد كتابة ناضجة. فأدبنا الحديث في مجمله يعاني من الإعاقات والتشوهات الفكرية نتيجة تلك الأفكار التي تحصر الكاتب في خانة المقدس الوهمي الذي يفتت الأفكار ويجعلها رمادا لا تنفع أمة ولا تغير مجتمعا. فاقدة لحرارة النضج الفكري، فما زلت تمشي على السطح، وتحذر من انفجار الألغام الفكرية المتعفنة هنا وهناك.
هذا هو زمن الفيسبوك والثورة العلمية والتكنولوجية وانفتاح الأفكار وتلاقحها وحرية التفسير والتأويل والعقلانية. إننا نخدع أنفسنا يا عزيزتي خدعة كبرى، أين التقدمية؟ هل هذه الأجهزة والوسائل المريضة هي كل تقدمنا وعقولنا ما زالت تسبح في أوهام الظلام من عصر الكهوف؟ لعلك تتذكرين قصة ذلك الرجل الذي عاش في الكهف المظلم حينا من الدهر، فألِف الظلام، واعتبره النور المبين، حتى إذا خرج إلى العالم والفضاء الرحب، آذته الشمس بنورها، والحرية بنسيمها العليل، فعاد إلى كهفه راضيا مرضيا. إننا لم نتقدم أبدا ولن نتقدم أبدا، وسيولد ألف كوبرنيكس ليقتل أو يصلب على مذبح الأفكار، أو لينتظر أن يكون على فراش الموت لتأتيه الشجاعة الكافية لنشر أفكاره التي ستؤلب الدنيا عليه. هل سننتظر مئتي سنة أخرى ليقتنع الناس بأفكارنا؟
عزيزتي المتمردة:
أمامنا الكثير من القلق، والسلم ما زال طويلا، ولكن علينا ألا نتراجع ونكتب لعلنا نفوز بشرف التعبير عن أفكارنا، حتى ونحن نفشل في التغيير. ولتعلمي أن العشاق وحدهم من يحق لهم ألا يتغيروا، وأنا لن أتغير سأظلُّ مشعا بك كما عرفتك أول مرة.
دمت بود وأيامك حرية ونقاء. راجيا أن تكتبي لي، سلمت لقلبي حياة، ولفكري ملهمة في كل صباح جديد، ولحن جديد. تذكري أن عيد ميلادي قد اقترب، فأي رسالة يمكن أن تصلني منك في ذلك النهار البهيج؟
المشتاق لنسائم روحك
بقلم/ فراس حج محمد