“الهمسة الثانية“.. كَفر زيباد عروس القرى

بقلم: زياد جيوسي

   كَفر زيباد هذه البلدة الصغيرة الهادئة الحجم قليلة السكان نسبيا  تمتلك سحرها الخاص، وتخفي اسراراها خلف هدوئها وصمتها، تنظر للمستقبل وتراه بالسواعد الشابة، ومن موقعها على ارتفاع 195م عن سطح البحر تنظر باشتياق للساحل الفلسطيني المغتصب كما كل الوطن، تتألق كعروس بين قرى كور وكَفر عبوش وكَفر صور وكَفر جَمّال التى تحيط بها، تستقبل النسمات الغربية العابقة ببرتقال أم خالد بين يافا وحيفا، فتمازجه مع قدسية زيتونها ونكهات زيتها، حالمة بفجر آت يود الوطن تحت راية الحرية.

   وصلنا مقر جمعية كَّفر زيباد الخيرية ومعي مرافق جولتي صديقي الشاب الأستاذ سامح سمحة، يرافقنا من اهل البلدة الأستاذ مأمون صالح والسيدة حسنية غنايم والسيدة هيفاء شعفاطي، وكان في استقبالنا بكل ترحيب الأستاذ عدنان غنايم رئيس الجمعية ومؤسسها، وأبو ثابت كان مدير مدرسة كَفر زيباد قبل التقاعد من سلك التعليم، وواصل خدمته للمجتمع من خلال هذه الجمعية التي تسعى لخدمة المجتمع المحلي ومشاريع تمكين المرأة اقتصاديا، حيث تجولت في رفقته بأنحاء الجمعية ومستمعا للدور الذي تقوم به، فقد انشأت مركز التدريب المهني لإثراء النساء، حيث يتم تدريب النساء على المهن التقليدية وتصنيع المنتجات الزراعية كالمخللات والألبان والصوابين العطرية والأعشاب الطبية والمساعدة بالتسويق، إضافة لتنفيذ العديد من المشاريع التنموية في البلدة بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المحلي، مثل انشاء خلايا نحل لانتاج العسل والمساهمة بالبيوت البلاستيكية وتأهيل آبار مياه للري واستصلاح أراض للزراعة وغيرها من المشاريع، لمساندة أهل البلدة عموما والمرأة بشكل خاص ومنحها القدرة على الاستقلال الاقتصادي وبالتالي دعم أسرهن.

   انهينا الجولة في مبنى الجمعية وصعدنا للمبنى الأول لموقع روضة الايمان التابعة للجمعية، حيث كانت باستقبالنا المعلمة فايزة محمود حماد مديرة الروضة، وحقيقة ومنذ بدأنا الصعود على الدرج لفتت الروضة نظري من خلال اللوحات على الجدران التي توجه الأطفال من لحظة دخولهم المبنى للحروف العربية، وفي المبنى تجولنا في غرف عديدة وزوايا تحمل اسماء معبرة مثل: زاوية الفن حيث يتم تدريب الاطفال على الفنون وتطوير قدراتهم، وزاوية القصة وزاوية الخيال وزوايا للألعاب وكلها تهدف لتطوير قدرات الأطفال التي يتم العمل على اكتشافها ورعايتها قبل دخول الأطفال المدرسة، ومن ثم انهينا الجولة في ساحة الألعاب حيث المتنفس الطبيعي للأطفال في ساحة مؤهلة جيدا من نواحي السلامة العامة وعدم تواجد الأطفال فيها بدون اشراف، وطوال الوقت لم تتوقف عدستي عن توثيق ما تراه وخاصة فرح الأطفال باللعب والألعاب، لننهي الزيارة بالتقاط الصور التذكارية مع طاقم المدرسة والجمعية ومن رافقونا، معبرا للاستاذ عدنان غنايم ولمديرة الروضة المربية فايزة حماد والمشرفات عليها عن تقديري الكبير واحترامي للجهود المبذولة، والدور الكبير لما يقومون به لخدمة المجتمع المحلي والبلدة من خلال الجمعية ومن خلال الروضة.

   من مبنى الجمعية كان موعدنا للتجوال في عبق تاريخ كَفر زيباد برفقة المربي الفاضل الأستاذ مأمون صالح، فاتجهنا لأعلى البلدة حيث موقع البلدة التراثية التي تتعالى أناتها من الاهمال وتركها ما بين مهدمة ومهجورة، فبدأنا جولتنا من اعلى البلدة القديمة متنقلين من بيت لبيت من البيوت التي تمكنا من دخولها، فالبلدة التراثية تضم ما يزيد عن 60 بيتا كانت مأهولة فيما مضى ولم يعد مأهولا ومستخدما منها إلا القليل، ومعظم البيوت كانت متصلة ببعضها على نظام الأحواش، والبعض منها مستقل عما حوله، وقد لاحظت خلال جولتي التي امتدت وقتا جيدا بين هذا التراث أن معظم بيوت كَفر زيباد القديمة كانت مبنية على نظام العقود المتصالبة التي تعلوها قباب تمنع تجمع المياه على الاسطح، ولفت نظري أن معظم البيوت كانت من طابق واحد، وهذا يدلل على التقاليد وطبيعة القرية التقليدية، ولم نجد بيوت من اكثر من طابق الا اربعة بني فوقهما ما نسميه (العِلية) وهو طابق ثاني له استقلاليته وفي الغالب كان يستخدم لاستقبال الضيوف، وهي عليات آل السالم وعلية رشيد غنايم وعلية أم عباس وعلية العبد الداود، وقد لاحظت أن علية آل السالم وعليات أخرى بنيت فوق المبنى الأصلي في فترة لاحقة عن البناء السفلي الذي بني على نظام العقود المتصالبة، فحجارتها تختلف عن المبنى تحتها وسقف العلية مستو وليس محدب مبني على نظام السقف بالدوامر المعدنية.

  هناك العديد من البيوت التي تركت جمالا في تصميمها وتختلف درجة جماليات التصماميم بين بيت وآخر، ومن ضمن ما زرناه الفرن الذي كان يخدم البلدة بأكملها وهو مبنى متهدم وهو الوحيد الذي شاهدته في جولتي مبني على نظام العقد نصف البرميلي، وربما كي يمكن بناء المدخنة الحجرية عبر السقف من فوق بيت النار مباشرة في اسفل المبنى، ولا اعرف ان كان هناك مبان أخرى على نفس النظام قد أتى عليها الزمان، اضافة لقلة من البيوت بنيت على نظام العقود المتوازية والأسطح المستوية، قسم منها على نظام الدوامر المعدنية للأسقف وقسم ذو أسقف تقليدية، وبشكل عام فإن البيوتات التي تمكنا من دخولها تحتوي انظمة البناء التقليدية التراثية حيث البوابات تغلق بعوارض معدنية قوية، والأبواب والنوافذ ذات اقواس نصف دائرية في أعلاها وعادة تكون مرتفعة حتى لا تكشف داخل البيت، وهذا النظام يساهم بقدرة البيت على تحمل الثقل الواقع عليه، وفي الداخل نجد مساحة تدخل قلب الجدار كانت تستخدم لوضع الفراش فيها حين الصحو من النوم وتسمى "المصفت"، إضافة لفوهات اشبه بنوافذ في زوايا مختلفة من البيت كانت تستخدم لأغراض شتى ومنها من كان يوضع سراج الزيت فيها للإضاءة، وعادة كنت اشاهد في هذه البيوت سواء في كَفر زيباد أو غيرها فوهة علوية تقع اعلى الباب الرئيس، ولعلها كانت تستخدم لتخبئة الأشياء الثمينة أو بعض الأوراق التي تثبت الملكية فيها، كي تكون بعيدة عن العبث ولا يمكن الوصول اليها بسهولة، اضافة لخوابي الحبوب التي لا يكاد يخلوا منها بيت، حيث تصنع من الطين والقش وتدهن بالجير لابعاد الحشرات، ويكون لها فتحة من الأعلى وفتحات صغيرة من الأسفل لسحب الحبوب منها حين الاستخدام.

   كان لا بد طبعا من زيارة المسجد القديم في البلدة والذي خضع لترميمات خارجية خربت المشهد الجمالي له، وهو مبني على نظام العقود المتصالبة وأعمدة تقوم عليها العقود، وجدران سميكة تكاد تصل الى مترين، وتاريخ هذا المسجد غير محدد بدقة وهناك روايتين عن تاريخه، فبعض المصادر تقول انه من المساجد القديمة التي عرفت بإسم المساجد العمرية وجرى تحويله إلى كنيسة في عهد الاحتلال الصليبي، ومن ثم تمت اعادته إلى مسجد بعد طرد الصليبيين من فلسطين، ورواية تقول انه بني أصلا على بقايا كنيسة بيزنطية وأصبح من المساجد العمرية.

   حين خرجنا من المسجد القديم أصر الأخ ابراهيم داود الذي التقانا صدفة أمام منزله على استضافتنا في بستان بيته على القهوة والشاي، ورغم ضيق الوقت وافقنا على الراحة قليلا وخاصة أن درجات الحراة ارتفعت وأصبح الجو في وقت ذروة الحرارة نسبيا لذلك اليوم، مما أتاح لي التصوير لعدة اماكن تراثية تحيط ببيته من خلال البستان، والصعود لأعلى بنايته وهي من اكثر المناطق ارتفاعا في البلدة، ومن سطحها كنت اجول بنظري وعدستي هذا الجمال الممتد وتأمل أسطح المباني التراثية وقبابها بالأحجام المختلفة، وأتنشق عبق نسمات البحر المغتصب الذي كنت أراه بوضوح فالمسافة الهوائية قريبة جدا، وبعد ان احتسينا القهوة والشاي شكرنا مضيفنا الذي كان يصر علينا ان نتناول طعام الغداء بطيبة وكرم أهل البلدة، فاعتذرنا وشكرناه وغادرنا باتجاه معصرة الزيتون "معصرة ابراهيم غنايم" التي لم يتبقى منها إلا المبنى القديم، حيث تكرم الأخ رائد فريد بإحضار المفتاح كي يتاح لي تصويرها من الداخل وأصر ان يستضيفنا على زجاجات من العصير، فشكرناه وأنهينا جولتنا في كَفر زيباد متمنيا أن يتم ترميم الأحواش والبيوتات التي يمكن ترميمها، واستخدامها كمؤسسات ثقافية وفنية وخدماتية تخدم البلدة وتحافظ على ذاكرتها، قبل أن يلعب الزمن دوره بشطب هذه الذاكرة، نشد الرحال أنا وصديقي الأستاذ سامح سمحة وعدستي وقلمي متجهين إلى بلدة كَفر عبوش حيث حكايات أخرى من حكايات الوطن، بعد أن ودعنا دليلنا الذي اتعبته معنا الأستاذ والمربي مأمون صالح، والذي تفرغ معنا طوال الوقت مشكورا.

   في شرفتي العمَّانية التي تضم مكتبي الصغير وكتبي أجلس مع النسمات الناعمة وفنجان القهوة، بعد جولة في الوطن امتدت ثلاثة اسابيع بين ربى جيوس وطولكرم ورام الله ونابلس، أستعيد رحلتي الساحرة إلى كَفر زيباد على أنغام فيروز وهي تشدو: "خبطة قدمكن عالأرض هدارة، انتوا الأحبة وإلكن الصدارة، خبطة قدمكن على الأرض مسموعة، خطوة العز جبهة المرفوعة، ويا حلوة اللي على الحلى عم توعى، عنقك العقد وإيدك الإسوارة".

   فأهمس: صباحك أجمل كَفر زيباد، أتيتك متسائلا عن سر لقب مدرستك بعروس المدارس، فوجدتكِ عروس القرى أيضا.. صباحك أجمل يا وطني.

بقلم وعدسة: زياد جيوسي

"عمَّان 14/7/2018"

المصدر: بقلم وعدسة: زياد جيوسي -