كلما فشلت الجهود لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة تطفو على السطح الدعوة إلى إجراء الانتخابات فورًا وخلال مدة زمنية لا تتجاوز ثلاثة أشهر. وتُقدّم الانتخابات وكأنها العصا السحرية القادرة بضربة واحدة على إيجاد الحل، على أساس أنّ الشعب مصدر السلطات، وهو الذي عليه أن يحسم من سيقوده، وعلى أي برنامج.
الرئيس وحركتا فتح وحماس ومختلف القوى ومؤسسات المجتمع المدني والفعاليات كلها، باستثناء أقلية تشترك برفض إجراء الانتخابات لأسباب دينية أو دنيوية، سياسية أو عقائدية، تكاد تجمع على أن الانتخابات هي الحل.
أبدأ بالقول إذا كان هناك شبه إجماع على إجراء الانتخابات، فما الذي يمنع إجراؤها طوال السنوات الماضية، إذ مضىت ثلاثة عشر عامًا على الانتخابات الرئاسية، وأقل من ذلك بعام على الانتخابات التشريعية؟
الجواب، هناك تكاذب وتواطؤ متبادل، فالقوى المؤثرة على القرار محليًا وخارجيًا لا تريد إجراء الانتخابات، فـ"فتح" تخشى تكرار نتيجة الانتخابات السابقة في ظل أن الأسباب التي أدت إليها لا تزال في معظمها قائمة، واحتدام التنافس بين أقطابها في مرحلة غموض الرؤية، فيما يتعلق باشتداد الصراع على خلافة الرئيس، مع عدم وضوح الآليات للفترة الانتقالية جراء استمرار الانقسام وما أدى إليه من تعطيل المجلس التشريعي، وأضيفت إليها أسباب جديدة، أبرزها أن الرئيس بلغ ثلاثة وثمانين عامًا، وصحته لم تعد كما كانت، ومن غير الواضح أنه يريد الترشح للانتخابات، وهل يريد أن يتنحى أم لا، وخصوصًا أن التنحي من دون الاتفاق المسبق على الخليفة أو الخلفاء والطريق الذي سيسيرون فيه يفتح الصراع على الخلافة على مصراعيه. كما أن "فتح" لا تريد حتى الآن إجراء انتخابات قبل إعادة قطاع غزة للشرعية التي تقودها "فتح" كون إجراؤها في الضفة فقط يسرع في تحول الانقسام إلى انفصال دائم.
أما "حماس"، فلا تريد إجراء الانتخابات في هذه الظروف، لأنها لا تضمن حصولها على الأغلبية التي حصلت عليها سابقًا، خصوصًا بعد فشلها في الجمع ما بين الحكم والمقاومة، بدليل النموذج الأحادي في الحكم وحيرتها الراهنة بين موافقتها على تمكين الحكومة الممثلة لخصمها الداخلي والملتزمة بأوسلو، أو استمرار الانقسام والبحث عن هدنة طويلة الأمد مقابل رفع الحصار أو تخفيفه بشكل جدي إلى أن "يقضي الله أمرًا كان مفعولًا".
كما أن "حماس" إذا حصلت على الأغلبية في الانتخابات القادمة لن تتمكن من الحكم في الضفة بشكل مؤكد، مثلما حصل بعد مقاطعة حكومتها وإفشالها داخليًا وخارجيًا، وستعاني في القطاع من الحصار والمقاطعة تمامًا مثلما حصل بعد الانتخابات السابقة، حين فازت ولم تتمكن من الحكم، فانقلبت على السلطة، وواجهت ولا تزال كل أشكال العداء والحصار ومحاولات إسقاطها طوعًا أو قسرًا، أي مطلوب من "حماس" أن تشارك في الانتخابات وألا تفوز فيها، وإذا فازت لن تمكن من الحكم، وإذا أرادت الحكم فعليها الموافقة على الاعتراف بإسرائيل، وحقها في الوجود، ونزع سلاح المقاومة ووقفها، وقد يضاف شرط جديد مثل الاعتراف بـ"يهودية" إسرائيل، و"نبذ العنف ومحاربة الاٍرهاب"، والالتزام بالاتفاقيات رغم أن إسرائيل لم تعد ملتزمة بها منذ سنوات طويلة.
لا يريد العديد من القوى الصغيرة والأفراد الذين ينادون بالانتخابات إجراءها فعلًا كما يدّعون، فهم ينادون بها لكي يظهروا بمظهر ديمقراطي أمام شعبهم والعالم الحر، لكنهم يخشون من إجرائها، لأنها ستكشف حجومهم الحقيقية، وأن بعضهم لن يتجاوز نسبة الحسم رغم أنه ممثل في اللجنة التنفيذية للمنظمة، والبعض الآخر لن يتجاوز 1%، والقليل القليل منهم من بمقدوره أن يعبر هذه النسبة.
أما الولايات المتحدة وإسرائيل فستعطيان الضوء الأخضر لإجراء الانتخابات إذا وجدتا فيها ما يحقق مصالحهما، وذلك من خلال أن تكون جزءًا من عملية سياسية تساهم في تكريس وتحقيق مخططاتهما وأهدافهما، مثلما حصل في انتخابات 1996 و2006، إذ منحت الأولى شرعية لأوسلو، في حين طمحت الانتخابات الثانية إلى تطويع "حماس" وغيرها من الفصائل على أمل أن تكون أقلية خاضعة للأغلبية في سلطة أوسلو، لأنها شاركت فيها تحت مظلتها، ولأنها لم تشترط التخلي عن التزامات أوسلو كشرط للمشاركة في الانتخابات.
لقد كان من المستحيل، ولا يزال، الجمع ما بين السلطة والمقاومة المسلحة وأوسلو تحت سطح واحد، فلا بد من الاختيار فيما بينها، وحتى الجمع ما بين المقاومة الشعبية والسلطة بحاجة إلى تغيير طبيعة السلطة ووظائفها والتزاماتها وموازنتها، لتصبح سلطة تخدم البرنامج الوطني وأداة من أدوات المنظمة بعد انضمام مختلف القوى والقطاعات والأفراد التي تؤمن بالمشاركة إليها.
يمكن لأميركا وإسرائيل أن تسمحا بالانتخابات في ثلاثة حالات:
الأولى: إذا وجدتا أنها ستساهم في تعميق الانقسام والشرذمة للحركة الوطنية والمؤسسات الفلسطينية، من خلال عقدها في ظل الانقسام. وفي هذه الحالة ستكون في الضفة فقط مثلما جرى في الانتخابات المحلية الأخيرة.
الثانية: إذا جاءت ضمن عملية سياسية تكرس اتفاق أوسلو، أو خطة سياسية جديدة مثل "صفقة ترامب".
الثالثة: أن تفرض عليهما فرضًا.
هل الاستنتاج مما سبق أن الانتخابات بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار؟
لا بالتأكيد، وإنما يعني أن الانتخابات يمكن أن تكون جسرًا لتكريس الانقسام وإضعاف القضية والحركة الوطنية الفلسطينية، أو أن تكون خطوة في سياق تحقيق النهوض الفلسطيني، هذا من جهة.
أما من جهة أخرى، نؤكد أن الانتخابات شكل من أشكال ممارسة الحرية، في حين الحريّة مفقودة في فلسطين لأنها تحت الاحتلال. كما أنها لا بد أن تكون جزءًا من منظومة متكاملة نستطيع القول عند تحقيقها إننا أمام تجربة ديمقراطية، بينما الانتخابات وحدها يمكن أن تكون غطاء لأسوأ الأنظمة الشمولية الاستبدادية الفاسدة والفاشلة، وإذا نظرنا إلى المنطقة العربية فسنجد الكثير من الأمثلة التي تدل على أن الانتخابات ليست نعمة دائمًا، بل قد تكون نقمة.
أما من جهة ثالثة، فلا بد من أن يتوفر للانتخابات الحد الأدنى من الحرية والنزاهة وضمان احترام نتائجها، وإلا لن تكون حرة ولا نزيهة ولا تعبر عن إرادة الشعب.
حتى لو لم تتدخل سلطات الاحتلال، وهي تتدخل بقوة بمختلف مراحل الانتخابات وتؤثر على النتائج، التي لا يمكن أن تجرى أصلًا من دون موافقة إسرائيلية، فإن التجربة الماضية في نفس الشروط التي جرت فيها سابقًا تكفي لكي يفكر كل ناخب قبل أن ينتخب، فهو سيفكر أكثر من مرة قبل أن ينتخب فصائل وأفرادًا تدعو للمقاومة المسلحة، لأنها إذا فازت ستتعرض السلطة للمقاطعة والحصار والعدوان والتجويع والاعتقال، فعن أي حرية وعن أي انتخابات يجري الحديث في وضع الفلسطينيين الحالي.
يقتضي هذا الواقع الملموس:
أولًا: العمل على إنهاء الانقسام وتوحيد مؤسسات السلطة في الضفة والقطاع على أسس مهنية ووطنية وشراكة حقيقية، بعيدًا عن المحاصصة الفصائلية وعن الحزبية، خصوصًا في أجهزة الأمن التي هي للوطن والشعب وليس للفصائل، كمتطلب أساسي لضمان حرية الانتخابات ونزاهتها واحترام نتائجها، وهذا يقتضي الاتفاق سلفًا على كيفية إحباط تدخلات الاحتلال لمصادرة نتائجها، مثل الاتفاق على كيفية استبدال من يتم اعتقالهم.
ثانيًا: العمل وفق أسس مشاركة تستند إلى مبادئ الديمقراطية التوافقية التي تستجيب إلى حقيقة أن فلسطين تحت الاحتلال وتواجه استعمارًا استيطانيًا عنصريًا، وأنها بحاجة إلى جبهة وطنية متحدة على أساس القواسم المشتركة، بحيث تصبح الانتخابات جزءًا وأداة من أدوات التحرر والاستقلال، وليس أداة للحسم الداخلي، وهذا يعني أن التوافق الوطني على برنامج القواسم المشتركة وعلى أهداف وقواعد وأشكال العمل والنضال الاساسية من القوى التي توافق على المشاركة شرطًا لنجاح الانتخابات، وأن مبدأ تداول السلطة الأساسي لأي نظام ديمقراطي مثله مثل فصل واستقلال السلطات وسيادة القانون وحرية الإعلام والمساواة واحترام حقوق الإنسان وحرياته لا بد أن يكون مجمدًا، أو يأخذ شكلًا خاصًا ينسجم مع الوضع الفلسطيني، إلى حين إنجاز التحرر والاستقلال، بحيث تكون أي حكومة يجري تشكيلها بعد الانتخابات حكومة وحدة وطنية بغض النظر عن نتائج الانتخابات، ما سيختلف من سيسمي رئيس الحكومة وكيفية توزيع الوزراء على الوزارات والفصائل والكتل المشاركة في الانتخابات.
هناك من يقول إن الوفاق الوطني صعب، وربما مستحيل، وإن توحيد المؤسسات من رابع المستحيلات، ومع ذلك يقول إن الحل بإجراء الانتخابات. فكيف الوفاق مستحيل وإجراء الانتخابات ممكن، وهو إما إنه لا يدري بعواقب إجراء انتخابات تحت الاحتلال وفي أجواء التحريض المتبادل والمسمومة من دون وفاق وطني وفي ظل الانقسام الذي يتعمق أفقيًا وعموديًا، وما يعنيه ذلك من تحريض وإقصاء وأوضاع اجتماعية واقتصادية وأمنية وقانونية، فضلًا عن احتمال كبير لتزوير الانتخابات وعدم الاعتراف بنتائجها، أو أنه يدري ولا يكترث منطلقًا من اليأس وأن الانقسام قدرٌ لا رادّ له، أو أنه من جماعات مصالح الانقسام الذين زادوا ثروة ونفوذًا في ظل الانقسام ولا يهمهم إنهاء الانقسام، بل يعنيهم أن يتعمق.
خلاصة القول: إن الاحتكام إلى الشعب بإجراء الانتخابات بشكل دوري، على كل المستويات وفي كل القطاعات، حق أساسي، شرط أن توضع الانتخابات في السياق الفلسطيني الذي يفرض التعامل معها كأداة من أدوات الشعب لدحر الاحتلال، وليس لمنحه الشرعية وطول العمر.
وعلى هذا الأساس لن تكون الانتخابات المدخل، وإنما التتويج لعملية سياسية متكاملة، تشمل توحيد المؤسسات المنقسمة، وإنجاز قدر معقول من التوافق الوطني يضمن أن تكون الانتخابات حرة وتحترم نتائجها، وهذا يعني أن إجراء الانتخابات يحتاج إلى أكثر من ثلاثة أشهر.
بقلم/ هاني المصري