حمل التصعيد العسكري في قطاع غزة العديد من فرص وإمكانات اندلاع مواجهة شاملة بين فصائل المقاومة وجيش الاحتلال الإسرائيلي، على رغم استبعاد الطرفين أي مصلحة لأي منهما في وقوع مثل هذه المواجهة، التي قد لا تخدم استراتيجية أي منهما بالضرورة. فالطرفان لا يسعيان خلال المواجهات إلى ما يمكن تسميته "القتل الاستفزازي"، وما قد يجره من تداعيات غير متوقعة. فقد نقل عن ضابط رفيع المستوى في سلاح الجو الإسرائيلي، إن طياريه امتنعوا عن إصابة عناصر في المقاومة في شكل متعمد، وذلك بناء على تعليمات القيادة العسكرية العليا للجيش الإسرائيلي. ووفقاً لموقع "واللا" العبري فقد أكد الضابط أن عشرات الطائرات الحربية شاركت في غارات السبت الماضي في شن الضربات الجوية المكثفة على الأهداف المختلفة في قطاع غزة، في أعقاب استعدادات استغرقت أسابيع توقعاً لإمكان التصعيد هناك، وذلك من خلال التعاون مع قيادة المنطقة الجنوبية.
مباشرة وفي اليوم التالي للتصعيد، وعشية قمة هلسنكي، كشف موقع عبري النقاب عن خطة إسرائيلية أطلق عليها "مظلة النار"، وتهدف لتحويل المعلومات إلى أوامر فورية إذا قرر الجيش احتلال غزة. وبدأ الجيش الإسرائيلي الأحد مناورة عسكرية في النقب وداخل مدينة بئر السبع، تحاكي آلية سيطرة إسرائيل على القطاع. و "مظلة النار"، هي غرفة مجهزة بحواسيب وشاشات وأجهزة اتصال حديثة، تهدف لتشخيص ومهاجمة وتصفية الخلايا المسلحة، استناداً إلى معلومات استخبارية فائقة الجودة مصدرها جهازا الأمن العام (الشاباك) والاستخبارات العسكرية (أمان).
وتشمل الخطة بحسب موقع "واللا" الاستخباري "ملاحقة خلايا مسلحة، ومواجهة تهديدات تحت أرضية، ونصب عبوات ناسفة، وإخلاء مصابين وقتلى من الجيش، ومشاركة مختلف قوات الجيش ووحداته العسكرية، من بينهم المشاة والهندسة، والمدفعية، وسيتعامل التدريب مع مختلف السيناريوات المتوقعة في قطاع غزة". ويقول الموقع إن الخطة "تسعى لتضييق الخناق على الخلايا المسلحة، بحيث لا تستطيع العمل علانية باستثناء مجالات ضيقة، فيما يجلس الضباط أمام شاشات البلازما، ويديرون المعركة عبرها، ما يعني أن الثورة الرقمية باتت جزءاً جوهرياً في عملية القتال". ويوضح أن "مظلة النار تركز على الرصد الرقمي خلف حدود غزة الجنوبية، لجسر الهوة بين المعلومة الاستخبارية وحلقة النار، وجعل إصابة الأهداف أكثر دقة".
تحاكي هذه المناورات التي تستمر أسبوعاً في جميع مناطق فلسطين التاريخية المحتلة، احتلال قطاع غزة، وذلك استعداداً لمواجهة عسكرية محتملة مستقبلاً على جبهتي القطاع وسورية. وبحسب بيان صادر عن الجيش الإسرائيلي، فإن المناورات "تشمل تحركات كبيرة للجيش والمركبات والطائرات سيشعر بها جميع سكان البلاد". ونقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن الجيش قوله إن "الإعلان عن هذه المناورات جاء مفاجئاً، لأنه عندما ترغب دولة ما في التأكيد على أن قواتها مستعدة للتحرك العسكري لدعم مواقفها السياسية، فإنها تعلن عن تدريبات عسكرية مفاجئة".
ووفقاً لتقديرات بعض المحللين، فإن إسرائيل تنتظر نتائج اجتماع القمة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، بعد وقت قريب من انتهائها، لا سيما في شأن مسألة استمرار وجود القوات الإيرانية في سورية. وما إذا كان الاتفاق بين الطرفين سيؤدي إلى سحب هذه القوات كما تريد إسرائيل.
على رغم هذه الأجواء المتشنجة والضاغطة، تجددت انتقادات العديد من المحافل الوزارية والإعلامية لحكومة نتانياهو، لفقدانها استراتيجية تعامل مع غزة، في ظل استمرار تجدد إطلاق النار بين فترة وأخرى، في وقت رجح البعض عدم رغبة الطرفين بالتصعيد نحو حرب واسعة أو شاملة، على رغم مواصلة بعض قيادات من الجانبين التهديد والوعيد بما يتجاوز سقف التصعيد الراهن.
وفي وقت ترددت داخل الحكومة أصوات تنادي برد حاسم (نفتالي بينيت)، أكد وزير الأمن الداخلي، جلعاد أردان، أن الجيش الإسرائيلي على استعداد لدخول قطاع غزة إذا استوجب الأمر. على رغم أن "معركة شاملة ليست الخيار المفضل، ولكن ليس باستطاعتنا أن نحدد كيف ستتصرف حركة حماس". في حين رأى المحلل العسكري عاموس هرئيل في "هآرتس"، أن الجولة الحالية لا تبدو في الوقت الراهن، أنها الطلقة الأولى في حرب أخرى بين إسرائيل و "حماس". مرجحاً أنها محاولة إسرائيلية لفرض قواعد أخرى للعبة في الجنوب، موازية للمفاوضات غير المباشرة بين الأطراف التي توسط فيها المصريون وأفرزت هدنة لا أحد يعلم كم ستصمد.
هارئيل المقرب من المؤسسة الأمنية يوضح أنه في هذه الأثناء، يبدو أن المفاوضات عالقة من أجل تسوية أوسع نطاقاً، وتواجه "حماس" ما يكفي من الضغط نتيجة الوضع في غزة، ولذلك تواصل إطلاق الطائرات الورقية والصواريخ، على رغم معرفة قادتها بأن هذا قد يورطهم في حرب جديدة أشد خطورة. لكن هارئيل عاد في مقال له يوم الثلثاء (17/7/2018) للحديث عن ضغوط على نتانياهو، ربما تدفعه لحرب جديدة على غرار حرب "الجرف الصامد" في عام 2014.
من جهته، رأى المحلل العسكري يوآف ليمور في "إسرائيل اليوم"، أنه بعد أربع سنوات بالضبط من عملية "الجرف الصامد"، كانت إسرائيل و "حماس"، في الأمس، على مقربة كبيرة من تجدد المواجهة في قطاع غزة، لكنهما غير معنيتين بها، بل رغبتا بتغيير "قواعد اللعبة" كل لمصلحتها.
ويتفق ليمور مع هارئيل بأن هناك مؤشرات ميدانية كثيرة على عدم رغبة الجانبين بالتدهور لمواجهة أوسع، ومع ذلك يرجح أن "حماس" فوجئت بشدة الهجمات الإسرائيلية. ويشير إلى أن إسرائيل وضعت ثلاثة شروط فورية لموافقتها على التهدئة: وقف إطلاق الطائرات الورقية والبالونات المحترقة، ووقف إطلاق الصواريخ ووقف النشاط الإرهابي على السياج. و "حماس"، من جانبها، تطالب بإعادة فتح المعابر بالكامل، وبأن توقف إسرائيل هجماتها في غزة.
ما ساد القطاع بعد جولة التصعيد الأخيرة، كان يناقض كل ما جرى الحديث عنه من اشتراطات للتهدئة، أو شروط فورية وغيرها، فعناصر الاشتباك المختلفة ما زالت تصارع للبقاء وتخرق الهدوء، وحتى يوم الأحد المقبل سيبقى معبر كرم أبو سالم مغلقاً أمام المحروقات والغاز، ما يعني الاستمرار بتشديد الخناق على غزة.
هذا في وقت جرى تسريب معلومات كشفها المحلل العسكري في "يديعوت أحرونوت"، أليكس فيشمان، تقول أن جيش الاحتلال يسعى منذ شهور لاستنزاف قوة "حماس"، من دون أن يضطر إلى احتلال غزة ودفع أثمان الحرب والسيطرة عليها. وأضاف أنه إلى جانب القضاء على الأنفاق في القطاع، "يخوض الجيش الإسرائيلي منذ أشهر حرب استنزاف ضد البنى التحتية العسكرية لحماس". ويقول فيشمان إن الجانبين يحاذران في ردودهما، تحاشياً للانزلاق نحو حرب واسعة، كل لحساباته. ويخلص إلى القول: "هكذا نبقى هذه المرة أيضاً مع مواجهة عسكرية تبحث عن حل ومع حرب استنزاف تغذي نفسها".
خلاصة الوضع الراهن بمعطياته المتناقضة، تؤكده التحليلات الإسرائيلية كما الفلسطينية، من أن كلا الطرفين ولكل أسبابه الداخلية، لا تحدوهما أي رغبة في تحويل المناوشات إلى مواجهة عسكرية شاملة، في وقت لا تساعد ظروف الطرفين ولا تشجع على ذلك. لكن معادلة القصف بالقصف، لدى فصائل غزة، كما معادلة الرد على حرائق الطائرات الورقية، قد تدفع الأمور إلى التسخين وبدء غليان المرجل الميداني، وما قد يجره من تطورات غير متوقعة، لا سيما إذا ما تسبب الاشتباك بوقوع ضحايا من الطرفين، وما قد تجره تداعيات ذلك من مواجهة عسكرية شاملة، قد يحتاجها هذا الطرف أو ذاك، لترجيح كفة تبريراته السياسية في جبهته الداخلية، في غياب أي استراتيجية واضحة ومحددة.
ماجد الشيخ
* كاتب فلسطيني