عالم الصداقة كعالم السياسة متنوع ومنزلقاته كثيرة لذا يجب التعامل مع من تعتبرهم أصدقاء بحذر حتى لا يتم طعنك من الخلف كما تتعامل بحذر مع السياسة التي يقال عنها إنها لا تعرف صداقات دائمة ولا عداوات دائمة بل مصالح دائمة ومن يشتغل فيها قد يرتقي إلى أعلى المواقع وقد تؤدي به إلى مهاوي الردى .
لا نروم من مقالنا هذا الحديث عن الصداقة كظاهرة إنسانية اجتماعية أو عن السياسة بمجالها التخصصي الدقيق ، بل عن العلاقة بين الصداقة والسياسة ، أو بشكل أوضح هل يمكن إقامة صداقة سياسية منفصلة عن الصداقة الإنسانية الاجتماعية أو العكس ؟ وهل الإعجاب والتوافق في المواقف السياسية يؤدي لصداقة إنسانية اجتماعية ؟ وما هو مفهوم الصداقة وضروبها ؟ .
نسمع كثيرا شخص يشتكي من خيانة صديق أو تفاجئه بسلوك اجتماعي أو سياسي صادم وغير متوقع من شخص يعتبره صديقا ، وفي كثير من الحالات فإن المشتكين أو المصدومين من خيانة الأصدقاء يتميزون بشخصية اجتماعية رومانسية في علاقاتهم الاجتماعية ورؤية مثالية طهرية للحياة السياسية ، هذه الرومانسية والمثالية إن تجاوزت حدها تكون متعبة لصاحبها حيث سيجد واقع الحياة الاجتماعية والسياسية تتعارض مع مبتغاه مما قد يُوصله لحالة احباط واغتراب ، ومتعبة لأصدقائه حيث اختلافهم معه قد يعرضهم من طرفه لتهمة الخيانة .
كما في عالم السياسة مثالية وواقعية كذا الحال في عالم الصداقة ، الأشخاص المثاليون والنرجسيون سيعانون في علاقاتهم الاجتماعية كما سيعانون في حياتهم السياسية ، هؤلاء ما كانوا ليصدمهم الواقع لو تحلوا ببعض الواقعية وأطَلعوا على واقع العلاقات الاجتماعية بين الأفراد وعلى تاريخ العلاقات الدولية وتجارب الشعوب وتقلبات الأحداث وقصص الأولين كقصة يوليوس قيصر في القرن الأول قبل الميلاد عندما خانه صديقه الوفي بروتوس وقال يوليوس قيصر مقولته الشهيرة (حتى أنت يا بروتس) ووقائع كثيرة غيرها .
القول بعلاقات صداقة بين دولتين لا يعني أن تفرط إحداهما بمصالحها القومية من أجل الدولة الصديقة ، نفس الأمر ينطبق على علاقات الصداقة السياسية بين الأشخاص ، فتوافق عدة اشخاص في الرؤية والمواقف السياسية لا يؤسس بالضرورة لعلاقة صداقة انسانية اجتماعية ، مثلا توافق أبناء الحزب الواحد في الرؤية والموقف وحتى في خندق النضال لا يؤسس بالضرورة لصداقة اجتماعية بين أبناء الحزب ، فالصداقة التي تقوم على هذا الأساس فقط لا تدوم حيث تخضع لتقلبات السياسة ، وأحيانا يكون العداء بين المنتمين لنفس الحزب أو الأيدولوجيا أشد ضراوة مما هو مع الذين يخالفوهم الرأي والعقيدة . لذا كما في علاقات الدول أيضا في الصداقات السياسية للأفراد ففي بعض مراحل العلاقة قد تتصادم المصالح وتنتقل من الصداقة إلى الفتور وربما العداء .
وبالعودة لمفهوم وضروب الصداقة ،فإن الصداقة كعلاقة إنسانية اجتماعية مفهوم ملتبس حيث تتداخل مشاعر الحب والإعجاب مع أحاسيس بالراحة النفسية تجاه شخص ما مع علاقات الزمالة مع المصالح والحاجة المشتركة الخ . ومن ما نسمعه ونشاهده من تجارب الآخرين يمكن تصنيف الصداقات كما يلي :
1- الصديق الخل الوفي ، وهي أرقى أنواع الصداقة حيث لا تحكمها المصالح أو التوافق السياسي ، وفيها يضحي الصديق من أجل صديقه ،وهذا النوع من الأصدقاء يستمر صديقا حتى لو تخلى عنك الآخرون ، ويٌقال إن هذه الصداقة نادرة .
2- صديق زمالة العمل ، تختلف الزمالة عن الصداقة ، ولكن المشاركة في نفس العمل والمكان لفترة من الوقت قد تؤدي لاكتشاف جوانب من شخصية الزميل يمكنها أن تؤسس لصداقة تدوم بعد العمل .
3- الصديق المتعالي أو الصداقة الفوقية ، حيث بعض الأشخاص من الطبقات أو النخب العليا يعنيها أن تؤسس (صداقات) مع أشخاص أدنى منهم للظهور أمام الناس بأنهم متواضعون وشعبيون ، إلا أن هذه الصداقة مخادعة حيث يتعامل الأولون باستعلاء مع الآخرين وهي شكل من أشكال النفاق .
4- الصديق طالب القُرب ، وهذه الصداقة عكس الأولى حيث يسعى البعض للتقرب من ذوي المناصب ووجهاء القوم والزعم بأنهم أصدقاء ، وذلك كشكل من أشكال الحماية ولإيهام أنفسهم وذويهم بأنهم أيضا كِبار ومهمون .
5- الصديق المُخبر ، وهو الذي يسعى للتقرب من بعض الشخصيات والتظاهر بصداقتهم من خلال بعض القواسم المشتركة أو بالنفاق والتزلف لكسب ثقتهم والحصول على معلومات لصالح طرف ثالث يكلفهم بهذه المهمة .
6- صديق المصادفة أو الصداقة العابرة ، وهي مؤقتة وقد تؤسِس لصداقة دائمة ، وتحدث أثناء السفر أو في مؤتمر أو بعد مشكلة عابرة .
7- (صُحبة الكأس) ، فهناك أشخاص يختلفون فيما بينهم في مشاربهم السياسية والاجتماعية ولكن تزول كل الاختلافات في جلسات خاصة في بار أو مقهى أو في البيت , وهذه الصداقة قد تكون عابرة وعمرها بعمر جلسة الكأس وقد تؤسِس لصداقة دائمة .
8- صداقة السجن ، ويقال إنها من أقوى الصداقات وخصوصا عندما تمتد زمالة الزنزانة الواحدة لفترة طويلة .
بقلم/ د. إبراهيم أبراش