نعاه غيتس فعرفناه

بقلم: أسامه الفرا

يعرف الكثير منا التفاصيل الدقيقة المتعلقة بلاعب كرة قدم، ولم يعد الأمر يقتصر على الجيل الشاب بل تزاحمهم في ذلك الأجيال المختلفة من صغيرهم إلى كبيرهم، نحفظ عن ظهر قلب النادي الذي يلعب فيه والأندية التي سبق له أن مر عليها، ونتابع التقارير الطبية التي تتناول حالة عضلة أصابها الاجهاد ونبتهل ألا تصل بتداعياتها إلى الرباط الصليبي، ونقدم وصفا دقيقاً للأهداف التي سجلها حتى وإن طوتها السنوات، ونجيد قراءة الرقم المتعلق بثمنه في بورصة الإنتقال بما يحمله من أصفار تنوء بالعصبة أولي القوة، ونلاحق تفاصيل حياته كي لا يسقط سهواً شيئاً منها يجعلنا في موقع الجاهلين بعظائم الأمور، ولا يعترينا شيء من الخجل ونحن ندافع عن نجمنا المفضل حتى الرمق الأخير، وأخبار نجوم كرة القدم تشغل الصحافة حتى تكاد ترصد لهم كل همزة ولمزة وتبحر في التحليل والتقصي لكل شاردة وواردة وكأنها تستعيد دور محاكم التفتيش الأسبانية.
والأمر لا يتعلق فقط بلاعبي كرة القدم بل يزاحمهم في ذلك العاملين بمجال الفن، رغم أن الفن ذاته لم يعد يحمل تعريفاً دقيقاً بعد أن اختلط حابله بنابله، وبات في الكثير منه يعبر عن حالة من الابتذال الفكري الرخيص، وما زال الغناء يقتحم بأصحابه أفئدة الكثير ونردد أغانيهم دون أن نكترث للكلمات التي لم تعد تحمل القيمة اللغوية والحسية في حدودها الدنيا، نحفظ أغاني هيفاء أكثر مما نحفظ من شعر محمود درويش، يجذبنا شعبولا بملابسه المزركشة في الوقت الذي تقف فيه ثلاثية نجيب محفوظ عاجزة عن الفعل ذاته، نستمع بشغف لحوار متلفز مع نجمة شباك ولا نلتفت البتة لأعمال مجدي يعقوب، نفتش عن تفاصيل حادثة مقتل سوزان تميم ولا نعرف شيئاً عن حادثة إغتيال د. سميرة موسى، ألم يأخذنا أحمد فؤاد نجم قديماً بقصيدته حول حكاية اسماعيل وكلب أم كلثوم إلى ذات الحقيقة؟.
وسط زحمة الاخبار الرياضية والفنية التي ترصد لنجومها كل صغيرة وكبيرة، سقط جهلاً خبر وفاة العالم المصري عادل محمود، وإن فطنت له بعض وسائل الاعلام فقد جاء الخبر مقتضباً، وإن تغيرت الحالة قليلاً بفعل نعي بيل غيتس للعالم المصري، المحزن أن النعي ذاته خلق لدينا سؤالاً استفهامياً حول هوية العربي الذي نعاه غيتس، غابت عنا لسنوات طويلة جملة ما حققه العالم المصري في مجال التطعيم وبخاصة المتعلق منها بفيروس الورم الحليمي وكذلك فيروس روتا المسبب لأنواع مختلفة من مرض السرطان، ناهيك عن عمله فيما يتعلق بإنشاء صندوق دولي للأمصال والتطعيمات، لعل ما أنجزه العالم المصري في مجالي التطعيم واللقاح هو الذي دفع صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية لأن تصفه بمنقذ الأرواح، لافتة إلى أنه انقذ ملايين البشر ولكنه مات بهدوء، غيب الموت العالم المصري بعد أن ترك ارثاً للبشرية تستند عليه في الوقاية من العديد من الأمراض المهلكة، رحل بهدوء بعيداً عن وطنه وبعيداً عن الصحافة التي تعج بأخبار نجوم الرياضة والفن، هل كنا بحاجة لنعي غيتس له كي نبدأ بالتعرف عليه عبر محركات البحث؟.
خلال زيارتي لمدينة اكس اون بروفانس الفرنسية، تلك المدينة التي لطالما وقف في ميدانها خطيب الثورة الفرنسية "ميرابو" ليشعل الجماهير بكلماته الثورية، وهي ذات المدينة التي وقف نابليون من شرفة أحد منازلها ليعلن انتهاء الحملة الفرنسية على الشام، كان الشاعر الكبير محمود درويش قد حل ضيفاً على المدينة ليلقي بعض أشعاره في مركزها الثقافي وكانت تلك هي المحطة الأخيرة لمحمود درويش قبل رحيله، استوقفني حديث المرشد الذي رافقني في المدينة حيث ما زال يحفظ تفاصيل زيارة محمود درويش للمدينة.. هنا جلس درويش يحتسي فنجان قهوته.. وهنا وقف طويلاً في الميدان الذي نصبت فيه المقصلة ابان الثورة الفرنسية.. وعلى هذا المقعد استراح بعد انتهاء امسيته الشعرية.. وهذه اللوحة رسمها فنان مغربي لدرويش ليخلد بها زيارته للمدينة، في المقابل ما زلت أذكر الضجة التي اثيرت حول زيارة محمود درويش لمدينة حيفا وما رافقها من جدل بين متهم لها بأنها تحمل يافطة التطبيع وبين مدافع عنها بإعتبارها تأتي على وقع رائعة غسان كنفاني "عائد إلى حيفا".
لا أحد ينكر الحالة التي خلقها اللاعب المصري محمد صلاح بإبداعه الكروي وانعكاسها الايجابي على الصورة المشوهة للمواطن العربي في عيون الغرب، وكذلك فعل من قبله اللاعب الجزائري رياض محرز وغيرهما ممن ابدعوا في المجال الرياضي، ومن البديهي تماشياً مع ما تشكله الرياضة من قوة حضور أن يتم تجيير بعض الابداعات فيها لخدمة قضايا خارج الدائرة الرياضية، فما فعلته جزر المالديف السياحية مؤخراً من استخدام صورة اللاعب محمد صلاح أثناء زيارته لها للترويج للسياحة فيها يأتي ضمن هذا السياق، لكن في الوقت ذاته أليس من المخجل أن يطوي الموت صفحة العالم عادل محمود دون أن تعرف الأجيال قيمة هذا الرجل؟، هل كان علينا أن ننتظر موته ليدلنا نعي عن اسهاماته في خدمة البشرية؟.

د. أسامه الفرا