كان من الطبيعي أن تتطلع الجماهير الفلسطينية إلى ثورة يوليو عام 1952 ، بوصفها الأمل والـمنقذ لحالة الضياع والتشتت التي حصلت جراء العدوان الإسرائيلي وإقامة دولة كيان الاحتلال الصهيوني على أنقاض الشعب الفلسطيني التي تجسدت في نكبة 48 وهزيمة الجيوش العربية آنذاك.
فواقع الهزيمة والهجرة (النكبة) بدد تطلعات الشعب الفلسطيني ورهانه على النظام الرسمي السائد في تلك الفترة الذي لـم يكن يملك قراره ويدور في فلك الاستعمار العالـمي.
فالشعارات التي تبنتها ثورة يوليو على الصعيدين الوطني والاجتماعي شكلت بارقة أمل للشعب الفلسطيني باتجاه محاولة استعادة الـمبادرة والتخلص من آثار النكبة، وكان تعبير ذلك يتجسد بالشعارات الثورية الوطنية والوحدوية الـمعادية للصهيونية والاستعمار، واعتبار قضية فلسطين قضية العرب الأولى على قاعدة استهدافها لكل الـمقدرات العربية وليس فقط للشعب الفلسطيني.
لقد أدى واقع الهجرة والنكبة إلى تفكيك نسيج الـمجتمع الفلسطيني بعد توزيعه على ثلاثة كيانات، فأصبحت الضفة الغربية جزءاً من الـمملكة الأردنية الهاشمية وخضع قطاع غزة لإشراف الإدارة الـمصرية، وبقيت مجموعات فلسطينية تعيش في إطار الدولة التي نشأت جراء 48 التي أصبحت تعرف باسم ما يسمى دولة إسرائيل .
لقد ساهمت الشعارات الثورية والوطنية في استلهام مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني وفي تصليب الـمواقف الناصرية، خاصة عندما رفضت الجماهير الفلسطينية في قطاع غزة عام 55 مشروع توطينٍ للاجئين في سيناء واعتبرته مؤامرة بحق القضية، تلك القضية التي ارتبطت بصورة عضوية باسم اللاجئين وضرورة السير باتجاه ضمان حق العودة وفق قرار الجمعية العامة للأمم الـمتحدة رقم 194 الذي كان شرطاً بالاعتراف الدولي في إسرائيل في ذلك الحين وقاعدة من قواعد قرار التقسيم.
وعلى ضوء تلك الـمظاهرات التي اندلعت في قطاع غزة رفضاً للتوطين تصلبت مواقف القيادة الـمصرية، وقامت بالعديد من الخطوات التي رسخت من خط الـمقاومة والكفاح ، ومنها الإعلان عن رفض أية مشاريع يرفضها الشعب الفلسطيني.
ومن هنا ساهمت العلاقة الـمصرية الفلسطينية في إرساء مؤسسات ذات بعد قانوني ومدني، وعزز الرئيس الراحل جمال عبد الناصر نظرية التضامن مع قوى التحرر العربي والعالـمي، فقد دعم الثورة الجزائرية واليمن ووقف وراء أية جهود استقلالية لأية حركة تحرر على الصعيديين العربي والدولي، كما وقف وراء قرارات الخرطوم الثلاثة الناتجة عن اجتماع الجامعة العربية بالخرطوم عام 66 ( لا صلح ، لا تفاوض ، لا اعتراف ) كما وقف إلى جانب تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية التي أصبحت الإطار العام لحركة التحرر الوطني الفلسطيني بعد انخراط فصائل
الـمقاومة الوطنية الفلسطينية بها واصبحت الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني ، وأكد الـمقولة الشهيرة أن الثورة الفلسطينية وجدت لتبقى وتنتصر، وذلك في تعليقه على الانتصار الذي حققته الـمقاومة في معركة الكرامة عام 68.
وفي ظل كل هذه الاوضااع شكلت هزيمة حزيران عام 67 وبسبب قسوتها فرصاً للـمراجعة التقييمية النقدية للفكر العربي ومنه الفكر الناصري، فقد أكدت الهزيمة على أهمية الديمقراطية والـمشاركة الشعبية وإفساح الـمجال للطاقات للانخراط في معركة التحرر الوطني في إطار ضرورة خلق الترابط العضوي ما بين القيادة والجماهير، واعتبار أن الـمعركة تتطلب الـمشاركة الشعبية الواسعة وليس الاعتماد على أجهزة الدولة الرسمية الوطنية فقط .
ان هذه التجربة وفي إطار الصراع العربي الصهيوني ورغم الـمتغيرات الكبيرة التي تمت ، كان لا بد من استنهاض الفكر القومي على قاعدة من التحرر والتنوير والديمقراطية، ولكن ليست الديمقراطية التي تأتي عبر الحروب ومحاولة فرض الاستعمار بآلياتها القديمة كما جرى في العراق وبعده من خلال ما يسمى الربيع العربي، ولكن الديمقراطية الـمرتبطة بالـمصلحة القومية والتي تعزز الـمشاركة الشعبية والتعددية الحزبية و الرافضة للعولـمة الـمتوحشة التي تقدس السوق على حساب حقوق الأفراد، والرافضة لـمقولات الشرق الأوسط الجديد والكبير الذي يريد شرذمة الوطن العربي على أسس من النزاعات الفئوية والطائفية، وبالتالي ترسيخ كيان الاحتلال كقوة متنفذة عسكرياً واقتصادياً في الـمنطقة.
وامام هذه المناسبة القومية نرى أن الشعب الفلسطيني من خلال مشاركته المتواصلة بمسيرات العودة في غزة والمقاومة الشعبية في الضفة حمل عناوين وطنية ،لن تمر المؤامرة على حقوق اللاجئين، وهو تأكيداً على إصرار هذا الشعب العظيم على مواجهة كل المؤامرات التي تستهدف قضية فلسطين ، وهو يتصدى ايضا لكل وكلاء الاحتلال الذين يواصلون التحريض على الشعب الفلسطيني ويحاولوا التسلل من خلال البوابة الدولية ويحاولون تحويل قضية فلسطين من سياسية إلى إنسانية، فهذا الشعب الذي تصدى لكل المؤامرات منذ انطلاقة ثورته الفلسطينية فرض على العالم بأن قضيته هي قضية سياسية وليست قضية إنسانية.
ومن هنا نحن نقدر ثورة 23 يوليو وقائدها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وشعب مصر العظيم ، ونؤكد على إرادة الشعب المصري الشقيق والشعوب العربية في دعم صمود الشعب الفلسطيني ، حيث تلعب مصر دورا بارزا في انهاء الانقسام وتطبيق اتفاقات المصالحة الفلسطينية ، اضافة الى موقفها في مواجهة ما يسمى قانون القومية الصهيوني ، وهذا يؤكدا على مكانة مصر العروبة قائدة النضال العربي لاستعادة الكرامة الوطنية والقومية.
ختاما : إن تجربة يوليو تؤكد الحاجة إلى العودة إلى مفاهيمها على أسس حديثة متجددة بعيدة عن الثقافة الشمولية أو احتكار الحقيقة في إطار يجمع بين حقوق الـمواطن ومصالح وأهداف الوطن.
بقلم/ عباس الجمعة