أينما اتجهت في فلسطين المحتلة تسمع قصصا عن المآسي التي يعيشها الشعب الفلسطيني. كل فلسطيني وفلسطينية عبارة عن مشروع رواية طويلة يمكن تحويلها إلى فيلم طويل. شكاوى لا أول لها ولا آخر حول ما يتعرض له الناس من مآسٍ بسبب الدولة المارقة وممارساتها العنصرية، فنسبة السكان هنا التي لم تعرف شيئا إلا الاحتلال قد تصل إلى 80%. كما أن رزمة أخرى من الشكاوى تتعلق بممارسات السلطة واستفزازاتها من ناحية التوظيف والمحسوبيات والفساد والبيروقراطية، أو كثرة الرسوم على المعاملات أو الإهمال الطبي. فقد حدث قبل أيام أن هجم أبناء بلدة كفر مالك على المستشفى الاستشاري، وألقوا الحجارة على الشبابيك فحطموها، احتجاجا على ما قيل "إهمال طبي أدى إلى وفاة الشاب رسمي عبد الرحمن حمايل وعمره 48 سنة". وهذا النوع من الرد على الخطأ بخطيئة منتشر تماما. ولكنني سأختار مجموعة من الحكايات المتعلقة بممارسات الاحتلال نحو الأطفال وهو في نظري الأهم.
حكاية شادي
شادي طفل مقدسي من مواليد 2003. متفوق في دروسه مدلل من أمه فريهان فراح لإصابته وهو في السنة الأولى من عمره بمرض في الدم. اعتقل يوم 30 ديسمبر/كانون الأول 2015 بتهمة حمل سكين خلال هبة الأقصى، أو ما سمي ثورة السكاكين. كانت والدته تخاف عليه أكثر من حدقتي عينيها بسبب المرض. لكنه عوفي قبل دخوله الروضة. وبسبب هذا الوضع ظل مرتبطا بأمه ارتباطا عاطفيا كبيرا وظلت أمه تخاف عليه أكثر من إخوته وأخواته. تصفه والدته: "شادي طفل ذكي نشيط يحب الرياضة والسباحة وركوب الخيل والدبكة الشعبية. متفوق في المدرسة، نظيف، نشيط، حنون على إخوته ووالديه". لكن طفولته البريئة تعرضت للانتهاك: "ذلك اليوم لا يمكن أن أنساه. تلقيت الخبر كالصاعقة لم أستطع أن أصدق أن طفلي الصغير ابن الـ12 سنة معتقل. كيف وهو ما زال غـِرا لا يعقل ولا يدرك ما يفعل؟".
اقتيد شادي لسجن المسكوبية في القدس وتم التحقيق معه، من غير محام أو أحد من العائلة. واستمر التحقيق معه لساعات متأخرة من الليل ثم وضع في زنزانة باردة وتم حلق شعره تماما وبقي هناك ستة أيام في المحكمه الأولى. وقالت القاضية إنه مشتبه فيه لوجود سكين بحوزته، ولكن سيتم إطلاق سراحه كونه لم يرتكب أي جرم ولم يهدد حياة أحد ولم يشهر السكين. وطلبت القاضية إحضار كفلاء من أجل إطلاق سراحه بكفالة مالية نقدية بقيمة 1500 شيقل والتوقيع على كفالة تعهد بقيمة 10 آلاف شيقل. وبالفعل تم دفع الكفالة النقدية والتوقيع على كفالة تعهدية. لكن تغير القاضي قبل جلسة إطلاق سراحه وقبل المحكمة بيوم وقعت عملية فدائية في القدس وتغيرت مجريات المحكمه وقرر القاضي التأجيل، حيث استمرت بعدها المحاكمات لمدة سنة كاملة. تقول فريهان "في كل محكمة كنت أعطي شادي الأمل بأنه سوف يفرج عنه. فمن غير المعقول أن يحكموا على طفل لم يرتكب أي جريمة، بل مجرد حديث دار بينه وبين طفل آخر وسمعه أحد المستوطنين وبلغ الشرطه واعتقلوا الاثنين معا".
يوم النطق بالحكم، طلب شادي من أمه أن تحضر معها ساندويتشة الفلافل المفضلة لديه وقطعة من الشوكولاتة على أساس أنه سيأكلهما وهو في طريقه إلى البيت، لكن المفاجأة أنه حكم بـ"ثلاث سنوات سجن مع التنفيذ". وهو ما زال قابعا في السجن كأصغر أسرى الحرية. صاحت والدته فريهان في القاضي: "أنتم صنفتم الطفل شادي إرهابيا حسب قوانينكم العنصرية، لكن بحكمكم هذا حولتم الطفل إلى بطل قومي لدى الفلسطينيين والعرب. انتم غيرتم مجريات حياته. كان بالإمكان الإفراج عنه ليعود إلى حياته الطبيعية يمارس طفولته البريئة، لكنكم بهذا الحكم الجائر عليه حولتم شادي إلى بطل قبل الأوان".
حكاية ديما
ولدت ديما إسماعيل الواوي في نوفمبر/تشرين الثاني 2003 في عائلة من بلدة حلحول التابعة لمحافظة الخليل مكونة من ثلاثة أولاد وست بنات. فلاحون يعتاشون على الأرض وما تطرحه من تين وعنب ورمان وحبوب وخضار. بقعة سرطانية تسمى مستوطنة "كرمي ناتسور" صادرت جزءا من أرض العائلة فجأة ووضعوا سلكا شائكا يحول دون وصول العائلة لأرضها. ديما بنت الثانية عشرة لا تعرف معنى المصادرة، لكنها تتابع عنف المستوطنين، وأكثر ما أخافها حرق محمد أبو خضير وعائلة الدوابشة. يوم 9 فبراير/شباط 2016 لحقت بوالدتها أم رشيد المتجهة نحو الأرض لقطع بعض الخضروات. وكانت تحمل حقيبتها المدرسية فلعل خيالها أقنعها أن الحقيبة وسيلة حماية، وإذا بالأسلاك الشائكة تقف في طريقها فدارت حول السلك وأضاعت طريقها وسلكت دربا أخرى. "وإذا بها قرب مدخل المستوطنة. صاح بها حرس المستوطنة أن تتجمد في مكانها. وقفت مرتعدة من الخوف. قال لها إرم حقيبتك. فرمت ثم تقدم ذلك الوعل الغليظ فكتف يديها خلف ظهرها وعصب عينيها ورماها على وجهها أرضا وداس ببسطاره القبيح على ظهرها إلى أن رمي بها في سيارة الأمن متوجهين نحو المعتقل. ضربوها ضربا مبرحا أثناء فترة التحقيق، ثم أحضروا سجانة غليظة وفتشتها تفتيشا تاما لحد التعرية"، قالت أم رشيد وهي تروي لي الحكاية. تقلب عليها سبعة محققين. كل واحد أغلظ من الآخر. اتهموها أنها تحمل سكينا لكن يديها الصغيرتين أضعف من أن تحمل سكينا لتضرب هؤلاء المدججين. حكمت عليها محكمة الأطفال العسكرية التي لا يوجد لها مثيل في العالم بتهمة الشروع في القتل بالسجن أربعة شهور ونصف الشهر، وغرامة مالية 8000 شيقل، والتوقيع على كفالة تعهد بقيمة 25000 شيقل. نقلت بعد ذلك إلى سجن "شارون" للبنات وأطلق سراحها بعد 75 يوما من الاعتقال الفعلي. وقد رشح اسمها ليدخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأصغر أسيرة في المعتقلات الإسرائيلية وفي العالم وهي في سن الثانية عشرة.
حكاية نديم
نديم صيام نوارة طالب في الثانوية العامة يعيش مع عائلته في رام الله. ولد بتاريخ 25 مارس/آذار 1997. كان عمره 17 ربيعا عندما أطلق عليه الجندي بن ديري النار بتاريخ 15 مايو/أيار 2014 أثناء مظاهرة سلمية في ذكرى النكبة قرب بيتونيا المحاذية لسجن عوفرا. تابعت قضيته بتفاصيلها منذ البداية وكلما أعود إلى الوطن أتصل بوالده صيام لمعرفة المستجدات. بعد دفنه على أساس أن الجندي كان في حالة دفاع عن النفس، إلا أن والد صيام جمع الأدلة من كافة الأشرطة المصورة التي تثبت أن ابنه قتل عمدا بدم بارد ورفع قضية في المحاكم الإسرائيلية. تم اخراج نديم من القبر وتبين من التشريح أن الرصاصة التي اخترقت قلبه ووجدت في حقيبته تعود للشرطي الذي قتل نديم. كانت قضية مكتملة الأدلة لا يختلف عليها اثنان: شهود عيان، شهود مسعفون، شهود مصورون، ومن بينهم مصور "سي أن أن"، الرصاصة التي قتلت وجدت، وعدة كاميرات صورت القاتل وهو يطلق النار لحظة إصابة نديم باتجاه القاصرين. يقول صيام: "معركتي مع المحاكم الاسرائيلية استمرت أربع سنوات، وكما تعلم أن المقصود بالمحاكم الاسرائيلية محامي القاتل، والقاضي، إضافة إلى النائب العام الاسرائيلي الذي يمثل عائلة نديم أمام المحكمة، ففي القضايا الجنائية لا يوجد محام يمثلنا أمام المحكمة". القاتل في إسرائيل يعتبر بطلا قوميا ويجد بجانبه الشعب والحكومة وحتى المؤسسات المتصهينة. وقد جمعت له التبرعات وتحولت قضيته إلى رأي عام. تحقيق العدالة في المحاكم الاسرائيلية يكاد أن يكون معدوما، لأن اسرائيل تعمل على تغيير القوانين كما يحلو لها، في وقت الحاجة تحت عنوان قانون الطوارئ. يقول صيام "تم عمل صفقة بين المدعي العام الإسرائيلي الذي يمثل نديم والمحامي الذي يمثل القاتل. أما نحن كعائلة فلم نكن طرفا في هذه الصفقة، ورفضنا التوقيع عليها. وكانت الصفقة تغير لائحة المتهم من القتل غير العمد إلى القتل بسبب الإهمال. فالقتل بغير عمد حكمه من 13 إلى 20 سنة، بينما القتل بالإهمال من خدمة مجتمعية إلى 5 سنوات. وللأسف في الجلسة الأخيرة وبعد مماطلات دامت أكثر من أربع سنوات حكم على القاتل بـ9 شهور سجن وغرامة 500000 شيقل". وحتى هذا الحكم المخفف لم يتم تنفيذه واستأنف محامي القاتل الحكم". يقول صيام عندما اعتقل القاتل (وقيل سلم نفسه) بعد عدة أشهر من مقتل نديم ضجت القنوات الاسرائيلية بالخبر لتظهر للعالم أن إسرائيل دولة قانون، ولكن لم تأت على ذكر المماطلات ولا الحكم المخفف ولا التبرعات للقاتل.
هذه عينة من ممارسات "دولة القانون والديمقراطية الوحيدة" في الشرق الأوسط كما يحبون أن ينعتوا دولة الأبرثايد بطبعتها المنقحة التي تجعل من جنوب إفريقيا "الأم تريزا".
د. عبد الحميد صيام
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي