تداعيات “هلسنكي“.. جدلٌ في واشنطن وارتياح في موسكو!

بقلم: معتصم حمادة

أثار أداء ترامب في "هلسنكي" ضجة وانتقادات واسعة في دوائر السياسة الأميركية، وخصوصاً تلميحه إلى أنه "يؤيد نفي بوتين لأي تدخل من قبل بلاده في الانتخابات الرئاسية"!

تواصلت تفاعلات وتداعيات القمة التي عقدت بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي (16/7)، حيث اتفق العديد من النواب؛ الجمهوريين قبل الديمقراطيين، على وصف أداء رئيسهم بأنه "كارثي وغير مسبوق" في تاريخ الدبلوماسية الأميركية، وذهب بعضهم حدّ الحديث عن "خيانة"، وعن "أسوأ لحظة في التاريخ الأميركي"، بل وهنالك من تهامس: "ما الذي يملكه بوتين عن ترامب، إلى الحد الذي يجعل الأخير ضعيفاً ومتصاغراً أمامه؟!".

يضاف إلى ذلك، تذمر البعض من "الغموض الذي طغى على محادثات الرئيسين، لا سيّما خلال لقائهما على انفراد"!. على النحو الذي دفع تشاك شومر، زعيم الديموقراطيين في مجلس الشيوخ، إلى مطالبة ترامب بعدم الالتقاء مع بوتين مجدداً، "إلى أن يعلم الأميركيون ما الذي دار خلال قمة هلسنكي"؟!.

وأمام هذه الموجة العاتية من الانتقادات، التي لا تنفصل، على أية حال، عن انتخابات نصف الولاية في تشرين الثاني/ نوفمبر القادم، اضطر ترامب إلى الدفاع عن نفسه عبر القول بأنه "لم يتنازل عن أي شيء خلال لقائه مع بوتين"، وبدا في حديث آخر وكأنه يتراجع عن تصريحات سابقة، حيث أعلن أنه "يقبل بنتائج تحقيق وكالة الاستخبارات الأميركية في التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية عام 2016"، موضحاً أنه أساء التعبير في حديثه عن هذه المسألة، وأنه "لا يرى سبباً لأن لا تكون روسيا مسؤولة عن التدخل في الانتخابات"!.

وإلى ذلك، أضاف ترامب أنه ونظيره الروسي "لم يتفقا على كل شيء خلال قمتهما". وأعلن البيت الأبيض أن قمة ثانية يدرس الجانبان عقدها في واشنطن الخريف المقبل، للبحث في ملفات الأمن القومي.

قبلها، كان ترامب أشاد بنفسه وبأدائه خلال جولته الأوروبية و"القمة الممتازة مع حلف الأطلسي في بروكسيل، (التي جمعنا خلالها مبالغ ضخمة. سيدفعون مئات البلايين من الدولارات أكثر في المستقبل، فقط بسببي)!، ووجّه أصابع الاتهام، كعادته، إلى وسائل الإعلام، التي "تخرج بأخبارها الكاذبة عن السيطرة"!. والتي قالت فقط "إنني كنت فظاً مع القادة، ولم تذكر أبداً النقود!".

وكان أداء ترامب في هلسنكي أثار ضجة وانتقادات في دوائر السياسة الأمريكية، وخصوصاً خلال مؤتمره الصحافي المشترك مع ترامب، الذي بدا فيه وكأنه يؤيد نفي بوتين لأي تدخل من قبل بلاده في الانتخابات الرئاسية، مُلقياً ظلالاً من الشك على النتائج التي توصلت إليها الاستخبارات الأميركية في هذا الشأن. وما زاد الطين بلّة، أنّ "هلسنكي" جاءت بعد قمة حلف شمال الأطلسي"، التي أدار خلالها ترامب ظهره لحلفاء الولايات المتحدة التاريخيين، ما أثار بدوره استنكاراً واسعاً في الداخل الأميركي.

كبح جماح الرئيس!

وعزت معلومات صحافية تراجع الرئيس ترامب عن تصريحاته بشأن مزاعم "التدخل الروسي" في الانتخابات، إلى اتفاق أغلب أقطاب البيت الأبيض والمسؤولين الأميركيين، من نائب الرئيس، مايك

بنس، ومستشاره للأمن القومي، جون بولتون، وكبير موظفي البيت الأبيض، جون كيلي، ووزير الدفاع، جيمس ماتيس، ووزير الخارجية، مايك بومبيو، على أنّ ترامب "ارتكب خطأ بإعلانه أنه يصدق عدم تدخل روسيا في الانتخابات"، ومطالبته العدول عن هذا التصريح، ما دفع ترامب إلى التراجع.

ودعماً لموقف الاستخبارات، أعلن رئيس مجلس النواب، بول رايان، أنه مستعدٌ لدرس فرض مزيد من العقوبات على روسيا، مجدداً تأييده لما توصلت إليه أجهزة الاستخبارات الأميركية عن تدخل روسيا في انتخابات عام 2016. كما اعتبر رئيس مجلس النواب السابق، نيوت غينغريتش، المقرّب من ترامب، أن الأخير "ارتكب أسوأ خطأ خلال رئاسته، وعليه تصحيحه فوراً".

ورأى محللون أنّ الدرجة العالية من استقلالية السلطات، وآليات عمل المؤسسات السياسية والتشريعية والأمنية في الولايات المتحدة، تضع كثيراً من القيود على الرئيس الأميركي وتُقلّل من إمكانية "تغريده خارج السرب"، على رغم أن النظام السياسي نظامٌ رئاسي يتمتع فيه الرئيس بصلاحيات واسعة. وقد اتضح ذلك من قبل في مواجهة ترامب مع السلطة القضائية، وكذلك الحال مع الكونغرس (المجلس التشريعي)، الذي رفض تمرير كل ما طلبه الرئيس من مشاريع داخلية، كما وضع العديد من الخطوط الحمراء على سياسته الخارجية.

وإلى ذلك، فإن هنالك ثقلاً سياسياً كبيراً للرأي العام الأميركي، الذي يتوافق غالباً مع التيار السياسي والاقتصادي السائد والمهيمن في الولايات المتحدة، هذا فضلاً عن ثقل مجموعات المصالح التي تمتلك نفوذا هائلاً على كلا الحزبين؛ الجمهوري والديمقراطي، وعلى الإدارة الأميركية، تالياً.

وفي المحصلة، فإن الأجواء السائدة في الولايات المتحدة قد لا تمنح ترامب هامشاً كبيراً للمناورة. ولعلّ انتخابات التجديد النصفي ستكشف، على نحو بيّن، عن طبيعة هذه المناخات ومدى اقتناع الناخب الأميركي في دعم الحزب الجمهوري، والتجديد للرئيس ترامب، تالياً، أم لا؟، ووفق ذلك، هل سيكمل سيد البيت الأبيض النصف الثاني من ولايته على نفس المنوال، أم سيكون "بطة عرجاء" مع تسليط سيف التدخل الروسي في الانتخابات، واحتمال تفعيل إجراء إقالته من منصبه.

"معايير موسكو" للتطبيع مع واشنطن

في المقابل، وبالمقارنة مع ترامب (الاستثنائي) الذي لا يمكن توقع ردود أفعاله، والذي زرع الشك في تحالفاته الدولية، بدا الرئيس بوتين مصمماً على تحقيق أهدافه من القمة، وأهمها استعادة الحوار مع واشنطن، وتعزيز موقع بلاده واستعادة مكانتها على الخريطة الدولية، ولا بأس من زرع الشقاق في وحدة الموقفين الأميركي والغربي حيال موسكو، وهو ما يبدو أن الظروف مناسبة جداً لتحقيقه.

وفي أول استثمار روسي مباشر لقمة هلسنكي، اعتبر بوتين أنّ "محاولات عزل روسيا فشلت... روسيا أكبر من أن تعزل". كما سخرت موسكو من الترويج لمخاوف في شأن إبرام الرئيسين "صفقات سرية" في هلسنكي. وقال بوتين، في لقاءات تلفزيونية، إن موسكو وواشنطن تتمسكان بآرائهما المتباينة حول ضم القرم من أوكرانيا عام 2014.

وأتى ذلك بعدما أعلن السفير الروسي لدى الولايات المتحدة أناتولي أنطونوف أن الرئيسين ناقشا خلال القمة إمكان تنظيم استفتاء في شرق أوكرانيا. وكان ترامب رفض اقتراحاً من بوتين بالسماح للقضاء الروسي باستجواب 12 أميركياً، بينهم السفير السابق لدى روسيا مايكل ماكفول.

وحدّد أنطونوف معايير لتطبيع العلاقات بين موسكو وواشنطن، مشيراً إلى أنّ هذه المعايير تستند إلى "إعادة الممتلكات الديبلوماسية الروسية المصادرة في الولايات المتحدة، وإلغاء طرد الديبلوماسيين، ورفع العقوبات الاقتصادية وعودة صيغة التعاون 2+2 على مستوى وزيرَي الخارجية والدفاع". وذكر أيضاً التعاون في أمن المعلومات ومكافحة الإرهاب "على أن تكون سورية هي المكان الأمثل لترجمة التعاون الناجح بين البلدين".

وأوضح أنطونوف أن بلاده مستعدة لمناقشة زيارة محتملة لبوتين إلى واشنطن، بعد دعوة مفاجئة من ترامب، مستدركاً بوجوب "التعامل مع نتائج" القمة الأولى، قبل تنظيم أخرى. وذكر أنه فوجئ بما شهدته الولايات المتحدة من "نفور شديد من كل ما بحثه الرئيسان"!.

الصورة: لعبة "الشدّ على الأيدي"!

كيسنجر: ترامب نهاية حقبة تاريخية / كادر شبك /

رحّب وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، بالقمة الروسية – الأميركية الأخيرة في هلسنكي، داعياً الغرب إلى "الفهم الصحيح" لمنطلقات السياسة الروسية.

ورأى كيسنجر، البالغ 95 عاماً، في حديث لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية (20/7)، أنه في السنوات التي سبقت ضم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لشبه جزيرة القرم، افترض الغرب خطأ أن روسيا ستقبل قواعد النظام الغربي، فأساء حلف شمال الأطلسي (الناتو) قراءة تعطّشها للاحترام الذي بقي راسخاً في الوعي الروسي، وحنينها العميق للمناطق التي كانت خاضعة لسيطرتها سابقاً، خصوصاً في أوراسيا.

ورداً على سؤال عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قال كيسنجر: "لا أريد التحدث كثيراً عن ترامب، (لكنني) أعتقد أنه أحد تلك الشخصيات في التاريخ التي تظهر من وقت إلى آخر لترمز لنهاية حقبة تاريخية، وجعلها تتخلص من ريائها المتقادم".

وأضاف أن هذا لا يعني بالضرورة أن ترامب نفسه يعي ذلك الأمر أو يفكر في أي بديل عظيم، وتابع: "ربما هذا مجرد صدفة". وحذّر كيسنجر من مغبة الشقاق بين الولايات المتحدة وأوروبا، على خلفية انتقادات وتهديدات ترامب لحلفائه عبر الأطلسي، مبيّناً أن القطيعة من هذا النوع ستعزز النفوذ الصيني في الساحة الدولية. وقال: "أعتقد أننا نمرّ بمرحلة صعبة جداً بالنسبة للعالم بأسره".

معتصم حمادة