لم يكن يوما عاديا , كانت أسراب العائدين إلى منازلهم شرق رفح, قد استعدت مع بزوغ فجر التهدئة المعلنة في صبيحة يوم الجمعة 1-8-2014م, التي أعُلنت كهدنة إنسانية ولمدة "72" ساعة, في قوانين الحرب يبقى الرصاص والقذائف تدوي حتى آخر دقيقة , وتصمت مع الدقيقة الأولى لسريان التهدئة , وافق طرفي القتال على الهدنة الإنسانية التي أعلنها جون كيري وزير الخارجية الأمريكية آنذاك , قبل سريان التهدئة كانت المقاومة شرق رفح تسجل ملحمة بطولية عبر عملية فدائية , هاجمت قوة صهيونية متوغلة قتلت وأسرت وعادت إلى قواعدها , وحسب بيان القسام فأن هذه العملية قد تمت الساعة "6:30" صباحاً , ويبدو أن الإحتلال شعر بألم اللطمة الكبيرة والهزيمة النكراء , بعد دخول التهدئة بشكل رسمي , تأكد لدى الإحتلال فقدان الجندي الصهيوني هدار جولدن , لم يجد له الإحتلال أي أثر , تم تطبيق نظام " هنيباعل " الأكثر إجراماً ووحشية , تنفيذاً لسيناريو مطاردة مفترضة لمجموعة تأسر جندي صهيوني , القصف الصهيوني الهمجي بدأ بعد دخول التهدئة بساعة كاملة أي في تمام الساعة التاسعة صباحاً , قصف بمختلف أنواع الأسلحة في كل إتجاه , إستهداف كل ما يتحرك من بشر ومركبات في رفح , قصف العائلات العائدة إلى منازلها بقذائف المدفعية الصهيونية , تناثرت أشلاء الشهداء في الشوارع والطرقات شرق رفح , الطائرات الحربية أغارت بوحشية على تجمعات مدنية كانت تتحرك في الطريق الشرقي العام لمدينة رفح , طائرات الإستطلاع الصهيونية لاحقت السيارات والدراجات النارية بالقصف في كل شارع وزقاق , مجزرة وحشية من جرائم الحرب الصهيونية , عاشتها رفح تحت وطأة القصف الهمجي الذي تواصل لساعات طويلة إمتدت للساعات الأولى من فجر يوم السبت 2-8-2014م , إرتقى خلال هذه الجريمة الصهيونية أكثر من 140 شهيد معظمهم من المدنيين العزل ومن بينهم عائلات بأكملها .
في ذلك اليوم زاد وجه العالم الظالم بشاعة , وهو يتفرج على مشهد القتل والإبادة في رفح , بصمت مريب وتواطؤ مفضوح , وإشتدت القبح الطافح عبر تصريحات البعض التي حملت المقاومة مسؤولية إنتهاك التهدئة المزعومة , كما جاء على لسان الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كيمون , الذي تبنى الرواية الصهيونية لمجزرة رفح , متجاهلاً مئات الشهداء الذي قضوا بقذائف ونيران الدبابات والطائرات الصهيونية , وكأن هذا العالم المجرم لا يريد لـ " لإسرائيل" الهزيمة , ولا يسمح بخدش هيبتها العسكرية , أو فقدان قوة الردع لآلة القتل التي تمتلكها بتمويل قوى المجتمع الغربي المتحضر ! , الذي تختفي إنسانيته وشعارات الحرية والعدالة لديه عندما يتعلق الأمر بـ " إسرائيل" .
إنتصرت رفح رغم بحر الدم وكومة الأشلاء , كانت رائحة الأجساد المحترقة يعج بها هواء رفح , وهناك في ثلاجات الخضراوات والأيس كريم كانت ترقد أجساد الأطفال الشهداء , وفي الأكياس بقايا أجساد قطعتها القذائف والصواريخ إلى أشلاء, لم تسقط رفح وبقيت واقفة صامدة متجذرة , رغم سيل النار وحمم القذائف التي سكبت من كل حدب وصوب على هذه المدينة الصابرة , خرجت من بين الركام تتنفس مقاومة وتتكلم مقاومة وتغضب مقاومة وتصلي وتمشي مقاومة وتشيع شهداء وتداوي جراح مقاومة , وبقيت راية رفح مقاومة ترفض الإستسلام او الخنوع , وكان الصمود ردائها الوطني الذي تتزين به رفح بكل بهاء وكبرياء.
بعد أربعة سنوات على الجمعة السوداء في رفح , ألا تحتاج هذه المدينة الصابرة إلى وقفة جادة ودعم حقيقي تعزيزاً لصمود البوابة الجنوبية , بإعتماد مستشفى يليق بتضحيات أهلها , ويخدم مرضاها وجرحاها , وهي المدينة الحاضرة دوما في ميادين المواجهة والبطولة مع أعداء شعبنا وقضيتنا , فلم تتأخر يوما ما عن الفعل الثوري والإشتباك الدائم مع الإحتلال , فلقد أثبتت مجزرة الجمعة السوداء أن رفح لا تملك بنية صحية حقيقية لمواجهة الأحداث الكبيرة والملمات الفظيعة , في ذلك اليوم المشؤوم سقط القطاع الصحي في رفح رسمياً , وبقيت روح المقاومة تسرى في بقايا طواقم طبية تداعت في المستوصف الكويتي لتداوي الجراح بإمكانيات بسيطة وضئيلة وسط الحصار الناري الذي أحاط برفح , فلا سبيل للخروج نحو مستشفيات خان يونس , فكان الآلم عميقاً وقاتلاً نراه في عيون الطواقم الطبية العاجزة أمام قلة الإمكانيات وإنعدامها .
ولعل رسالة هذه اليوم الأسود في رفح البطولة , أننا في قطاع غزة مجتمع مقاومة يواصل معركته نحو الحرية ، ومن مقتضيات المواجهة ضد الإحتلال توفير مقومات الصمود والثبات , و من الأولويات تعزيز الخدمات الصحية والعلاجية وإقامة المستشفيات والنقاط الطبية والإسعافية في كل مدينة ومخيم , عبر خطة مدروسة يكون لكل مدينة كفايتها من المستلزمات والحاجات الطبية , وقاعدتها القوية من المؤسسات الطبية والعلاجية من مستشفيات ومراكز طبية, لمواجهة كافة الإحتمالات والمخاطر وتعزيز مقومات الصمود لشعبنا في قطاع غزة.
بقلم : جبريل عوده *
كاتب وباحث فلسطيني
1-8-2018م