المقالة الأولى: ( الجذور التاريخية ) :
الخليل مدينة كنعانية الأصل والصورة، عـربية الجذور والانتساب، فـلسطينية الهـوية والانتماء. ويخطئ مَن ظنَّ يوماً أنها " حَبْرُون " العبرانية، ذلك الاسم المتأخر الذي خلعه عليها أولئك العابرون إليها من وراء نهر الأردن بقيادة يشوع بن نُون، - بحسب السَّرد التوراتي - الذين أرادوا أن ينزعوا عنها وجهها الكنعاني الناصع العريق، ويخلعوا عليها ثيابهم البالية المرقَّعة من بعد تِيهِهِم أربعين سنة في بَرّية سيناءِ. ولأنَّ التوراة التي بين أيدينا من عند غير الله ؛ فإننا نجد فيها اختلافاً كثيراً بسبب تعدد كاتبيها وما أحدثوه وأدخلوه فيها من تحريف. وإليكم القصة كما روتها أسفار التوراة العبرانية والتوراة السامرية، تلك القصة المُفَبْرَكَة التي أعمتْ بصيرةَ وبصرَ كثيرٍ من الباحثين في التاريخ القديم؛ فتجرَّعُوها دون مناقشة ودون رَدِّ الفروع إلى الأصول، ويؤسفنا أن يكون من بين المصَدِّقين لرواية التوراة عربٌ مسلمون ومسيحيون، فيساهمون في ذلك التعتيم التاريخي، ويتبنَّوْنه بمفترياته، ويقولون بما تقول التوراة . وإنه ليَحزُننا أن يكون من بين هؤلاء فلسطينيون ومن أهل الخليل بالذات، فيَقبَلون الروايات التوراتية والأسماء التوراتية ويرددونها على ألسنتهم في التلفاز، ويذيعونها في الناس بأقلامهم في الكتب والصحف السَّيَّارة، ويتخذونها حُجَّةً يستشهدون بها على أحقية بني إسرائيل في فلسطين، فيُظهِروننا نحن أصحاب البلاد– بقصد أو من غير قصد- غرباء طارئين عليها، جئناها معتدِين غازين محتلين، ويُشرعِنُون وجود اليهود فيها، مُصَدِّقِين وعدَ ربِّ الجنود أَدُوني بلفور السماوي لإبراهيم (2000– 1825 ق.م) الذي أعطى فلسطين (وطناً قومياً!) لهم، قبل أن يَعِدُهم بها اللورد بلفور الإنجليزي سنة 1917م. تلك هي التوراة التي دُوِّنَتْ في المنفى بعد وفاة موسى بثماني مئة سنة بيد عَزْرا الكاهن، الذي وصفته التوراة بأنه " كاتب ماهر في شريعة موسى " (انظر عزرا7: 6)، والذي ترأس لجنة التأليف والتزوير المؤلَّفة من كبار الكهنة اللاويين الذين قاموا على تدوين أحداثها، فكتبوها بأيديهم وعلى هواهم خلال السبي البابلي في الفترة من 586 ق. م– 516 ق. م. ثم كان دور القراءة الاستشراقية وكذلك ترجمة المستشرقين التي لم يكن أصحابها يدركون مقاصد النص التوراتي، وليست لهم معرفة بالفضاء الجغرافي لأسماء ومواقع المدن والجبال والأنهار والوديان على مسرح الأرض التوراتية في اليمن القديم؛ فألصقوها بالمسرح الكنعاني/ الفلسطيني حين نقلوها إلى العربية والإنجليزية وإلى لغات أخرى عالمية، فنفثوا فيها سمومهم، الأمر الذي وضع بين أيدينا نصاً توراتياً كما أرادوه لا كما أراده الله .
ولِنَعُدْ إلى القـصة في التوراة العبرانية والتوراة السامرية - ( مع اخــتـلاف بينهما كـثيـر في ســـــرد
الوقائع )- فـتخبـرنا كلتاهـما أنْ " أخـذ تارح أبرام (ابنه)، ولوطاً بن هاران(ابـن ابنه)، وساراي كـنَّـتـه (امـرأة أبـرام ابـنـه)، فـخـرجـوا مـعـاً مـن أور الكـلـدانـيـيـن (مسقط رأس إبراهيم، شرقي مجرى نهر الفرات ببلاد الكلدانيين بالعراق) لـيـذهـبوا إلى أرض كنعان" . تكوين 11: 31. فأتوا إلى حاران (مدينة تقع بين النهـرين في الشمال الغـربي من العـراق، وهي الآن داخل الحــدود السورية)، وأقـامـوا هـناك قـليلا من الـزمن حـيـث مات ودُفِن تارح أبو أبرام، ثم خرجوا منها وواصلوا المسيرة إلى كنعان. " فذهب أبرام كما قال له الرب، وذهب معه لوط ، وكان أبرام ابن خمس وسبعين سنة لمَّا خرج من حاران، فأخذ أبرام ساراي امرأته ولوطاً ابن أخيه، وكلَّ مقتنياتهما التي اقتنيا، والنفوس التي امتلكا في حاران، وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان. فأتوا إلى أرض كنعان" . تكوين 12: 4-5. وبعد أن دخل أبرام أرض كنعان وجدها معمورة بأهلها الكنعانيين، فأخذ يتنقَّل فيها إلى أن وصل إلى شكيم( تل بلاطة الآن، القريبة من نابلس). " واجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلُّوطة مُورَة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض، وظهر الرب لأبرام وقال لنسلك أعطي هذه الأرض، فبنى هناك مذبحاً للرب الذي ظهر له ". العبرانية/ تكوين 12: 6-7 ووردت هاتان الجملتان في التوراة السامرية بلفظ مختلف عن التوراة العبرانية، هكذا: " وعَبَرَ أبرم في الأرض إلى موضع نابلس إلى مرج البهاء، والكنعاني حينئذ في الأرض، وتجلَّى ملاك الله لأبرم، وقال له لِنَسْلِكَ أُعطي الأرض هذه، فبنى هناك مذبحاً لله المُتَجَلِّي إليه". السامرية/ تكوين 12: 6-7. وتخبرنا التوراة أن خصومة وقعت بين رعاة مواشي أبرام وبين رعاة مواشي ابن أخيه لوط بسبب تنازعهم على المراعي لأغنامهم وبقرهم، " وكان الكنعانيون والفَرِزِّيون حينئذ ساكنين في الأرض". تكوين 13: 7. فاقترح أبرام على لوط أن يفترقا ويتباعدا، فاختار لوط دائرة الأردن وارتحل شرقاً ونقل خيامه إلى سدوم (جنوبي البحر الميت) وسكن فيها. " وأبرام سكن في أرض كنعان" . تكوين 13: 12. وفي موقع آخر يخبرنا سفر التكوين أن الرب قال لأبرام: أن اسمك قد تَغَيَّر، " فلا يُدعَى اسمُك بعدُ أبرام، بل يكون اسمُك إبراهيم ." تكوين 17: 5، ثم يتغير اسم ساراي، " وقال الله لإبراهيم: ساراي امرأتُك لا تَـدْعُو اسمَها ساراي، بل اسمُها سارة ". تكوين 17: 15. ونحن نُرجِّح – إن صدقتْ رواية تغيير الأسماء- أن السبب هو لزوم التوافق الصوتي في تركيب الاسميْن الأجنبييْن مع لغة أهل كنعان الدارجة في تلك البلاد، وهــذه مـن خـصائـص الـلـغـات حــيـن تــتـعامـل مع أســماء دخــيـلـة وافــدة إلـيـهـا. فـمـخـارج الحروف ذات الأوتار والطَّبقات الصوتية الخاصة بلسان العرب تحتِّم أن يتحوَّل اسم أبرام إلى إبراهيم، واسم ساراي إلى سارة. وهذا التغيِّر والتحوُّل في بنية الكلمة من اللغة الأكادية الوافدة من أرض الرافدين إلى اللغة الكنعانية بأرض كنعان-(رُغــم أنـهــما لغـتان سامـيَّـتـان)- هـــو شيء طـبـيـعي نجـــده في كل اللغات
التي يحتكُّ أهلها بأقوام الآخرين لأسباب حياتية.
ومما روته التوراة في المواضع التي ذكرناها وفي غـيرها من مواضع كثيرة؛ نـقـف عـلى حـقيقة
أن إبراهيم وزوجه سارة ولوط ابن أخيه ومن كان معهم قد خرجوا من بلاد الكلدانيين بالعراق إلى حاران، ثم واصلوا رحلتهم إلى أن دخلوا أرض كنعان (التي هي فلسطين الآن)، دخلوها غرباء لاجئين فيها، مستجيرين بأهلها الذين أكرموا وفادتهم وأنزلوهم بينهم منزلا حسناً. وعاملوهم بأحسن ما تكون معاملة صاحب الدار للضيف الغريب. ويجدر أن نذكر ما أخبرتْ به التوراة من أن إبراهيم استأنف التجوال، فنزل لاحقاً في أرض الفلسطينيين غريباً ، كما نزل من قبل غريباً في أرض كنعان. " وتغرَّب إبراهيم في أرض الفلسطينيين أياماً كثيرة ". تكوين 21: 34.
ماتت سارة:
وماتت سارة – زوج إبراهيم – في قرية أربع ،( وهو المكان الذي دُعي في سفر التكوين في التوراتيْن العبرانية والسامرية باسم "حَبْرُون". وهذه القرية لم يكن اسمها حَبْرُون أيام إبراهيم وإنما الذي سماها به هو يشوع خادم موسى وخليفته في قيادة بني إسرائيل إلى أرض كنعان قبل صموئيل النبي وشاول القائد و داود بن يَسَّى الملك، والمسافة الزمنية بين إبراهيم وبين يشوع خادم موسى وقائد الشعب من بعده، أكثر من ست مئة سنة تقريباً). فماذا يفعل إبراهيم بعد أن ماتت زوجه سارة؟. إنه لاجئ غريب في أرض كنعان، ولا يقدر على دفنها في أرض غربته إلا أن يسمح له أصحابها بذلك. إذن عليه أن يذهب إلى ناديهم الذي يجتمعون فيه يستدِرُّ عطفهم ويسألهم المساعدة. وإليكم رواية الإصحاح 23 من سفر التكوين: فالتوراة السامرية تقول : " وماتت سارة في قرية الأربع في المرج هي حَبْرُون بأرض كنعان ." تك 23: 2. أما التوراة العبرانية الأكثر تداولا في العالم، والأكبر إطالة في السرد القصصي بإطنابها الممل، فتقول: " وماتت سارة في قرية أربع، التي هي حَبْرُون، في أرض كنعان، فأتى إبراهيم ليندب سارة ويبكي عليها، وقام إبراهيم من أمام مَيْتِهِ وكلَّم بني حِث قائلا: أنا غريب ونزيل عندكم، أعطوني مُلْك قبر معكم لأدفن مَيْتِي من أمامي. فأجاب بنو حِــث إبـراهـيـم قـائلـيـن له : اسمَعنا يا سـيـدي، أنت رئـيس من الله بيننا، في أفضل قبـورنا ادفنْ مَيْتَك، لا يمنع أحـدٌ مِنَّا قـبـره عـنـك حـتى لا تـدفن مَيْتَك ". تكوين 23: 2- 6. وهكذا تفضَّل عليه بنو حِث- ( وهي إحدى القبائل العربية الكنعانية التي كانت تملك أرض قرية أربع في ذلك الزمان، وهي القرية التي أطلق عليها بنو إسرائيل اسم " حَبْرُون " بعد ذلك في عهد يشوع)- وسمحوا له أن يدفن زوجه في المكان الذي يريد، وكانت منهم نخوة وشهامة لا يعرفها بنو إسرائيل ولا يُقدِّرونها. ولكن كاتب التوراة أصرَّ على أن يُصَوِّر إبراهيم بصورة يهودية بشعة قوامها التاجر المراوغ، الذي يقتنص الفرص لغرض في نفْسه، ويُظهره بالمساوم اللحوح، ويصنع منه إنساناً يُنكر الجميل ويرفض الْهِبَة ويُصرَّ على الشراء المزعوم لمغارة المكفيلة التي تقع في طرف حقل عفرون. ولكنَّ عفرون بن صوحر الحِثِّي– صاحب الحقل والمغارة- يرفض أن يبيع أرضه، ورأى أنَّ الأكرم له أن يُقَدِّم الحقلَ هدية لهذا الغريب. وقد فعل بما تمليه عليه النخوة والشهامة، وهما وجهان لمفتاح الشخصية العربية في العصور القديمة. ولكنْ، كاتبوا التوراة يُصِرُّون على الشراء بثمن مدفوع أمام الشهود، وهي من ألاعيب وأمكار الكهنة اليهود كاتبي السفر، حتى يعطوا أنفسَهم ثغرة ينفذون منها لتحقيق أطماعهم وتوثيقها بالدعاوى الكاذبة ليثبتوا ملكيتهم لهذه القرية بموجب صك المبايعة المزعوم مضافاً إليه الوعد الإلهي المكذوب على الله الذي صدَّقَه عُمي البصر والبصيرة، فيدَّعون أن جدَّهم الأعلى إبراهيم قد اشتراها ودفع ثمنها وأن الرب وعده بها ولنسله من بعده. ونسل إبراهيم عندهم هم النسل الذين جاءوا من زوجه " سارة " وابنهما اسحق وحفيدهما يعقوب (إسرائيل) وأولاده الأسباط وذرياتهم فقط. ويُخرِجون من نسله ابنه اسماعيل ابن " هاجر " وذُرِّيته، والأبناء الستة لإبراهيم من " قَطُورة " الزوجة الثالثة التي ذكرها سفر التكوين وذكر أسماء أولادها. (انظر تكوين صح 25: 1-2). وهكذا يتم هذا الفصل الملفق بشراء إبراهيم حقل المكفيلة والمغارة بأربع مئة شاقل فضة من صاحـبه عـفـرون بن صوحـر الحِـثِّي، الـذي يـدَّعِـي كـاتـب سفــر الـتكويـن أنه قـبـض ثـمن حــقـلـه، وبإشهــاد الـحـاضريـن عــلى صحــة الشراء وانتقال الملكية إلي المالك الجديد (إبراهيم!). فـتقــول الـتـوراة : " فوجب حقل عفرون الذي في المكفيلة التي أمام ممرا، الحقل والمغارة التي فيه، وجميع الشجر الذي في الحقل الذي في جميع حدوده حوالَيْه، لإبراهيم مُلَكَاً لدى عيون بني حِث (أي بحضورهم وبشهادتهم). وبعد ذلك دَفن إبراهيم سارة امرأته في مغارة حقل المكفيلة أمام ممرا، التي هي حَبْرُون في أرض كنعان، فوجب الحقل والمغارة التي فيه لإبراهيم مُلْكَ قبر من عند بني حِث ". تكوين 23: 17- 20.
فعلينا أن نتذكر- ولا ننسى- اعتراف التوراة، بأن " سارة " ماتت في قرية أربع، التي هي، حسب زعم كاتبيها، حبرون في أرض كنعان كما ورد سابقاً، وسيأتي لاحقاً خبر التوراة أن يشوع غيَّر اسمها الكنعاني (قرية أربع) إلى (حبرون) بعد أكثر من ست مئة سنة تقريباً من موت سارة. والجدير بالذكر أن هذه القرية الكنعانية الأصل هي الآن المدينة الفلسطينية المسماة : الخليل؛ نسبة إلى سيدنا إبراهيم الخليل – عليه السلام. ولكنْ على القارئ أن يمعن النظر في تكرار الرواية التوراتية لشراء حقل المكفيلة والمغارة التي فيه؛ في مواضع متفرقة، بمناسبة وبغير مناسبة، فكان من شأن هذا التكرار أن أزال قدسية النص التوراتي لأنه لم يأتِ بفائدة إضافية، ونحن نُرجِّح أنه من صنع كاتبي التوراة الذي دأبوا على تكرار الخبر الواحد الذي يخدم أهدافهم وتطلعاتهم، يحشرونه في مواطن مختلفة، وكأني بهم يَكذِبُون ويَكذِبُون حتى تأتي الساعة التي يُصَدِّقُون فيها أكاذيبهم. وإنهم ليريدون من وراء ذلك تحريض الآخرين على تصديق ادِّعاءاتهم التاريخية، فهم يصولون ويجولون في أرجاء صحيفة الأنساب وصحيفة الأخبار كيفما شاءوا وكيفما سوَّلتْ لهم أنفُسُهم بنشر المفاسد والقبائح على أنبياء الله الطاهرين، إذ ليس لهم منازع ولا منافس يدحض مزاعمهم ويكشف أزيافهم، لأن التوراة هي أقدم مرجع تاريخي لقصص أنبيائهم ولكثير من الأحداث والوقائع التاريخية، ولكنها للأسف الشديد قد شُوِّهَتْ حين عبثت بها أيدي الكهنة، وعصفت بها أقلامهم، فعاثوا فيها الفساد ودنسوا قدسيتها بفبركاتهم وتلفيقاتهم التي اخترقت العقول المحصَّنة لدرجة أن الإسرائيليات قد اقتحمتْ كتبَ التفسير القرآني ونفذت إلى قصصَ الأنبياء وسِيَر الصالحين من الأولياء.
وليسمح لي القارئ أن أصحبه معي إلى خيمة الاجتماع حين كلَّم الربُّ موسى في بريَّة سيناء في أول الشهر الثاني في السنة الثانية لخروجهم من أرض مصر، وأَمَره بإحصاء الذكور من بني إسرائيل في هذا الزمن المبكر من تجميعهم في مجتمع يخصهم وحدهم ولا يخالطهم فيه أحد من خارج ملَّتهم، وهنا نقرأ في صحيفة الإحصاء عن عشيرة حَبرون بنص التوراة العبرانية، (أو قبيلة حَبرون بنص التوراة السامرية) حين كان تجمُّعهم في بريِّة سيناء قبل أن يموت موسى وقبل أن يدخل يشوع الأرض ويقسِّمها على الأسباط بمشاركة الكاهن أليعازر بن هارون. ومعنى هذا أنَّ بني إسرائيل كانوا عشائر أو قبائل، ولكل عشيرة أو قبيلة منازلها، وتُسمَّى هذه المنازل، أو قُـل هذه الأماكن، بأسماء هذه العشائر أو تلك القبائل، ولما رحلوا عنها حملوا معهم أسماء مواطنهم الأولى التي كانت لهم في مصر أو في عسير جنوبي الجزيرة العربية أو في اليمن القديم؛ وسموا المواضع الجديدة التي يَحِلُّون فيها بتلك الأسماء الغابرة التي تستوطن صدورهم، ربما بسبب الحنين والتَّعَلُّق العاطفي بها، وهذا يُفسر إطلاق أسماء مواطنهم ومنازلهم الأولى على مدن وقرى كنعانية/فلسطينية مثل بيت بوس وبيت ءِل ووادي هَنُّوم وحبرون؛ كاستطراد في استذكار الأوطان القديمة في عسير وفي اليمن القديم. وعَمَدتِ القراءةُ الاستشراقية على مطابقة بعض المدن التوراتية القديمة مع المدن الفلسطينية لتشابه في الرسم أو النطق الصوتي، مثل مطابقة يريحو التوراة بأريحا فلسطين، وبيت لخم ( قبيلة لخم اليمنية) ببيت لحم الفلسطينية، ويردن بالأردن، وجبل الرما بالرامة، وبيت حورون بحوران الشامية ....الخ . إذن حَبرون اسم لموضع لهم خارج فلسطين وليست كما يزعمون مدينة الخليل الفللسطينية. وهاك نص التوراة الذي فلتَ من أيدي صُنَّاع التاريخ الإسرائيلي ومرممي حوائط مملكتهم المُحطَّمة، نقرأ فيه : " وكلَّم الربُّ موسى في برِّيَّة سيناء، قائلاً : عُدَّ بني لاوي حسب بيوت آبائهم وعشائرهم، كل ذَكَر من ابن شهر وصاعداً تَعُدُّهم ، فعَدَّهم موسى حسب قول الرب كما أمر. وكان هؤلاء بني لاوي بأسمائهم: جَرشُون ، وقَهَات ، ومَراري.(.....) وبنو قَهات ، حسب عشائرهم : عـَمرام ، ويَـصْهار، وحَـبرُون وعُــزِّيئِيل ). العــدد3: 14-19. ( في الـتوراة السامرية : قبيلة الحَبروني بدلاً من
عشيرة الحَبرونيين في التوراة العبرانية.عدد3: 27).
ومات إبراهيم:
وأراني أخـتـمُ هـــذه الــمـقـالة بـنـقــل خــبــر مــوت إبـراهــيـم في ركن آخـــر من صحـف الـتـوراة، لـيـقـف
القارئ على التكرار المتعمد للخبر الخاص بشراء إبراهيم لحقل عفرون، الذي اصطنعه كاتبو التوراة ومُدَوِّنُوها خدمةً لمطامعهم: وإليكم نص الـتـوراة العـبرانـيـة: " وهذه أيام سِني حياة إبراهيم التي عاشها: مئةٌ وخمسٌ وسبعون سنة، وأسلم إبراهيم روحه ومات بشيبة صالحة، شيخاً وشبعان أياماً، وانضم إلى قومه. ودفنه إسحاق وإسماعيل ابناه في مغارة المكفيلة في حقل عفرون بن صُوحَر الحِثِّي الذي أمام ممرا، الحقل الذي اشتراه إبراهيم من بني حِث، هناك دُفن إبراهيم وسارة امرأته. وكان بعد موت إبراهيم أن الله بارك إسحاق ابنه، وسكن إسحاق عند بئر لَحَي رُئي ". وفي التوراة السامرية:" وسكن إسحق عند بئر الحَي الناظر". تكوين25: 7-11.
يلاحظ القارئ أنَّ تكرار خبر شراء الحقل غير مُبَرَّر، ولكنهم يظنون أنَّ صِدْقَهم يكمُن في كَذِبِهم المتكرر، وكأني بهم يفتحون صحائف التاريخ، ويشطبون عن الحقيقة التاريخية، ويمسحون اسم كنعان والكنعانيين، ويُسطِّرون ما يشتهون.
ولكن لنا تساؤل واحد ووحيد: ما لزومُ كلِّ هذه الفَبْرَكَة الإعلامية التوراتية بشراء إبراهيم لحقل صغير في قرية أربع (الخليل الآن) إذا كان الربُّ قد أعطاه أرض كنعان كلها، ولنسله من بعده كما مرَّ بنا في سِفْر التكوين صح 12: 6-7؟!. وكما جاء في موضع آخر في نفس السِّفر بطريقة أخطر من سابقتها، إذ إن العطاء الرَّبَّاني لنسل إبراهيم كان أكبر وأوسع بحيث يشمل أرض كنعان وغيرها: "... في ذلك اليوم قطع الربُّ مع أبرام ميثاقاً قائلاً: لِنسلِكَ أُعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات ". تكوين 15: 18. ثم جاء في مخاطبة الرب لموسى أنه حلف لآبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيهم مدناً عظيمة لم يبنوها، وبيوتاً مملوءة بالخيرات لم يملأوها، وآباراً محفورة لم يحفروها، وكروماً وزيتوناً لم يغرسوها. (انظر تثنية6: 10-11، ويشوع24: 11-14)، كما تتابعـتْ عهـوده وتـعهُّـداته لهم بطَرْد أصحاب الأرض، وإجلائهم عنها، فيُمَلِّكُهم إياها بعد إخلائها من سكانها الأصلـيـيـن. (انظر تثنية7: 1). ولكننا نـقـول لهـم: أيهـا الـدُّخلاء! ابحثوا عن مواطنكم الأولى ومسارح نشوئكم بعيداً عن أرض فلسطين، فستجدونها وتجدون أنفسكم هناك، في منطقة عسير؛ جنوب غرب الجزيرة العربية، وفي بلاد اليمن القديم. أو ابحثوا لكم عن مكان آخر يُؤويكم غير فلسطين، فإنكم مهما أُوتيتم من مواهـب حاذقة في الكذب والتزوير؛ فلن تُفـلِـحوا في تغيير حالكم من غرباء ضالِّين إلاَّ إلى كونكم مستوطنين منبوذين في أرض تلفظكم...* ا.ه. ( وإلى لقاء معاً في المقالة الثانية)*.
للكاتب الصحفي/عبدالحليم أبوحجاج