(1)
قبل أكثر من 1430 عاما خرج جيش من المدينة المنورة الواقعة حاليا في أراضي المملكة العربية السعودية إلى مؤتة الواقعة في أراضي المملكة الأردنية الهاشمية حاليا لقتال الروم، وكان من بينهم شاب هو ابن عم نبينا محمد-عليه وعلى آله الصلاة والسلام- فحمل اللواء أو الراية بيمينه فقطعت، فحملها بيساره فقطعت، فاحتضنها بعضديه حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه وما زالت الأجيال تتناقل أخباره، وتزور قبره، إنه جعفر بن أبي طالب، والذي حمل لقب (جعفر الطيار) لأنه يحلّق في الجنة بجناحين كما في الأثر مع الملائكة.
وصار هناك من المواليد من يحمل اسم جعفر تيمنا بالطيّار، ومساجد يذكر فيها اسم الله في مدن وقرى تحمل اسم جعفر، بل إن سنة صنع الطعام لأهل الميت، كانت لأهل جعفر بتوجيه نبوي، وفكرة أو تشريع ما يعرف في زمننا بـ(رعاية أسر الشهداء) كانت لذرية وأهل جعفر...فجعفر أحد رموز شهداء المسلمين إلى يوم الدين.
ولكن جعفر (الرمز الشهيد) قاتل بشجاعة دفاعا عن رمز إسلامي، فما الراية بتجرّد إلا قطعة قماش محمولة على عصا، ولكن الراية ليست بقيمتها وشكلها المادي، بل بما تمثله وترمز إلى قيمته، فقد كانت عنوانا لثبات الجيش الذي واجه واحدة من أعظم قوتين في العالم في زمنه، وبالتالي تصبح النظرة المادية للراية غير ذات صلة، بل للراية رمزية دفعت هذا المسلم الشجاع أن يتعالى على جراحه وينال كما روي بضع عشرات من الطعنات ويحتمل ما يصعب على العقل تصوره من الألم، بل يتناساه ويتعالى عليه كي تظل الراية مرفوعة...فالراية(اللواء) رمز خاص جدا.
(2)
وكوفية أبو عمار، أو ما يعرف شعبيا بـ(حطة الختيار) صارت إحدى الرموز والأيقونات الخاصة للثورة والكفاح والنضال والصمود الفلسطيني، خاصة في مرحلة ما بعد النكبة الثانية حتى الآن، إضافة إلى بعدها التراثي أو الفلكلوري، وكنا نسمع من عجائزنا -رحمهن الله- تعبير (حطة عراقية) وربما هذه الكوفية عراقية المنشأ، وبعض الإخوة في العراق اعتمروها وما زالوا، ولكنها تجاوزت هذا الجدل لتصبح بامتياز رمزا فلسطينيا وطنيا، وصارت بخطوطها السوداء المتشابكة فوق القماشة البيضاء شارة لكل الوطنيين والإسلاميين واليساريين والمستقلين الفلسطينيين فيلفونها حول أعناقهم أو يجعلونها خلفية بارزة لكثير من احتفالاتهم ومناسباتهم...فلا ينظر إلى الكوفية بكونها مجرد غطاء رأس يقي من الحرّ أو البرد، أو لإضفاء مظهر الهيبة أو الرجولة(حتى نساء يلبسنها) ولا فائدة من جدلية تقول أنها من ضمن الألبسة أو الأزياء الشعبية العراقية، فهي رمز وأيقونة من رموز وأيقونات الكفاح والنضال والجهاد الفلسطيني في وجه المشروع الصهيوني، بل إنها تواجه قلنسوة وقبعات الحاخامية، مع أنها ليست رمزا دينيا كما نعلم، ولكن في تفاعلات الصراع والسردية والسردية المضادة هي بهذا البعد المعنوي والنفسي.
(3)
وأيقونات ورموز فلسطين متعددة ومتجذرة، منها ما هو شيء بروح معنوية لا بيولوجية كالكوفية والعلم، ومنها ما له روح وباركه الله كشجر الزيتون، ومنها من هم أشخاص غالبيتهم شهداء أو أسرى منذ احتدام الصراع على هذه الأرض منذ حوالي قرن.
وحيثيات الترميز للأشخاص بتفصيلاتها وعمقها كمادة دراسية هي شأن أهل هذا العلم، أما النتيجة فشأننا جميعا، والشخص الذي نال الترميز يصبح مع الزمن ملكا للشعب الفلسطيني كله ضمنا، ويتجاوز الذات بطبيعة الحال والمآل، ويقفز عن حدود الأسرة والمنطقة، والتنظيم أو الفصيل.
ففي ذروة الانقسام ظل الجمهور الحمساوي وخصمه الفتحاوي في حالة احتفاء بأبي عمار والياسين، مع بقية الشخصيات (المرمّزة) من الشهداء القادة(كالشقاقي وأبو علي مصطفى) فظل جمهور حماس يشيد بأبي عمار، وظل جمهور فتح يشيد بأحمد ياسين، لأن الرمزية حالة عابرة وطاغية، ولها أبعاد نفسية عميقة، يصعب على أي تنظيم احتواء مفاعيلها، مهما حاول.
ألم تختلف بل تصطدم فتح مع الشيخ أحمد ياسين؟ألم تختلف وتصطدم حماس مع الرئيس ياسر عرفات؟بلى، ومن الديماغوجية الفجة إنكار الخلاف والصدام، بغض النظر عن الأسباب، ولكن حين تعلو النظرة إلى الأمور يوضع الخلاف في صفحات ماض إما أن يعتبر نزغ شيطان، أو حالة طبيعية لم يستثنى منها حتى الصحابة الكرام، أو هكذا هو سياق حركات التحرر وطبيعتها عبر التاريخ، ويحل الترميز بكل مفاهيمه التي قد لا يستطيع كثير من الناس التعبير عنها بكلام منمق، كحالة فوق كل جدل من أي نوع، فالنتيجة أن هناك قادة شهداء صاروا رموزا للشعب الفلسطيني وكفاحه لنيل حريته وتحرير أرضه ومقدساته، يتجاوزون برمزيتهم كل تعليق أو جدل حول ما كان منهم وأين كان صوابهم وأين كان خطؤهم، فهذا شأن الباحثين حين بحثهم، أما عموم الشعب بمن فيهم الباحث والدارس فيتعامل مع الرمز برمزيته فقط، لأن هذه هي طبيعة الأشياء.
(4)
ولكل فصيل رموزه الخاصة التي قد تتحول جزئيا غالبا، أو كليا في حالات قليلة أو مؤقتة إلى رموز شعبية عامة بحكم الظروف الموضوعية؛ فحينما يخوض (خضر عدنان) إضرابا عن الطعام، فهو بغض النظر عن موقعه الحقيقي/التنظيمي في حركة الجهاد الإسلامي، قد صار من رموزها التي تتحول إلى أيقونات فلسطينية تتجاوز الانتماء بطبيعة الحال.
أما دور الإعلام في صناعة الرمز، فلا شك بأنه كبير، ولكن أن يقال بأن الإعلام صانع الرمز فهذا كلام غير دقيق البتة، فالإعلام يمكن أن يبرز كاتبا أو مفكرا أو متحدثا، ويجعله معروفا للعامة والخاصة، أما الرمزية فهي حالة تتفاعل مع الإعلام وقد تتقوّى به لكنه(الإعلام) ليس هو صانعها.
هناك شهداء ظلوا في الذاكرة الفلسطينية الجمعية حتى الآن مثل شهداء الثلاثاء الحمراء(حجازي والزير وجمجوم) وعز الدين القسام وفرحان السعدي، وهناك شهداء عبّروا عن مرحلة كفاحية أو طفرة أو نـقلة جذرية في النضال الفلسطيني؛ فمثلا احتفاء حماس ومن ثم عموم الشعب الفلسطيني بالمهندس (يحيى عياش) يفوق ويطغى على–وأظنه سيظل كذلك- احتفائها بأي شهيد منها خاض العمل العسكري، لأنه كان باكورة حالة فريدة، ودوما يقال بأنه لو اعتقل وحكم عليه بالسجن بضع مئات من السنين، لما نال هذه الرمزية، ولكنها مشيئة الله تعالى، ولو أن الرمزية تخضع لجدليات بائسة لقيل:لماذا من جنّد يحيى عياش في العمل العسكري لم يحظ بمعشار رمزية عياش؟أو أن هناك قادة بعد عياش كانت لهم بصمات تمظهرت بعمليات كانت خسائر الاحتلال فيها أعلى بكثير من عمليات العياش، من حيث الكم والابتكار وغير ذلك، ولكنهم لم ولن ينالوا ما لعياش من حظوة ورمزية، فهل تتهم حماس مثلا بالتقصير مع من سلف أو خلف المهندس؟أم هل ننسب المسألة للإعلام؟لا بالتأكيد.
(5)
والاحتلال يغيظه أن يكون لنا رموز من أي لون؛ شجرا أو حجرا أو شهداء أو أحياء، وهذا مفهوم لأن فكرة المشروع الصهيوني في مفصل مهم من مفاصلها تقوم على مسح وطمس كل ما من شأنه أن يشير إلى نكبة فلسطين وشعبها، أو حقوقه ومقدساته.
وعلى الصعيد الفلسطيني يجب أن نتحلى بوعي جمعي لا مجال فيه لجعل الرموز محل جدل عقيم، أو نقاش أخرق سقيم، يستنزف طاقة معركة الرموز والرمزية المهمة في الصراع، لأن الجدل والفلسفة فيما لا يحق ولا يجوز فيه جدل أو فلسفات تبعثر فكرة التركيز التي تنطوي عليها المعركة بالرموز ضمن الحرب أو الصراع.
وسيكون لي وقفة أو وقفات بمشيئة الله مع موضوع الرمزية والترميز وأهميته بعون الله تعالى.
،،،،،،،،،،
بقلم:سري سمّور