المشهد الفلسطيني يتحرك وبسرعة الضوء وفقا لتوجهات وخطط موضوعه وجاهزة للتنفيذ ويبدو أن ليس للقيادة الرسميه للشعب الفلسطيني دور فيها من حيث صناعتها أو مواجهتها، وهي في الواقع تكتفي بردّات الفعل وبطرح ملاحظات وتفسيرات وإعتراضات، الهدف منها بالأساس محاولة وقف تلك الخطط المتدحرجه وبقوة والمدعومه دوليا وإقليميا، خاصة أن منطقة الشرق الأدنى القديم (الشرق الأوسط) وبالذات "المشرق العربي" و"مصر" مُستهدفه من كل القوى العالميه العظمى ويحدث على جغرافيتها مفهوم صراع النفوذ مرة بالحروب والتدمير ومرة أخرى بتقاسم النفوذ ووفقا لمصالح تلك الدول، وإتفاقية "سايكس-بيكو" لا زالت ماثلة أمامنا والتي أدت لما نحن عليه اليوم لإعتمادنا لها بإعتبار أنها الواقع الذي يجب التعامل معه والتعايش فيه، مما أدى إلى مفاهيم قطرية ومصالح خاصة تتحكم بها فئات محددة وفي كل قطر من الأقطار العربيه الحاليه.
المشهد الفلسطيني وفقا لذلك ليس بعيدا عما يجري بل هو في قلب الحدث وأساسه، وكل المحاولات التي تجري الآن عنوانها بشكل واضح إيجاد حلول خلاّقه يُمكن خلالها حفظ أمن دولة "إسرائيل" وإيجاد كيانية فلسطينيه ما تؤدي الغرض والهدف وتُنهي القلق القادم من الجنوب "غزة" للتفرغ بشكل كامل للهدف الأساسي المُعلن وهو مواجهة "إيران" وتمددها في المنطقة العربية ككل خاصة وأن ما قام به "الحوثيين" قبل فترة بإستهداف ناقلتي نفط سعوديتان دق ناقوس الخطر، وأصبحت بوصلة التوجه مثبته بإتجاه معركة المضائق والطرق البحريه، بمعنى مواجهة التمدد الإيراني وتحجيمه، وهذا يستدعي بالحدود الدنيا إطفاء الحرائق في "الجولان" و"غزة" حيث هناك القدرة والإمكانية موجوده، فالرئيس "بوتين" وروسيا موجودة في سوريا ولها النفوذ الأوحد وبقوة عسكرية ضخمه تدعمها، وغزة محاصرة ومجوّعه ويمكن مساومتها، في حين الجنوب اللبناني حيث القوة لِ "حزب الله" مسألة مختلفه ولا يمكن أن تكون إلا جزء من أي معركة قادمه.
أعتقد أن لقاء "هلسكني" بين الرئيس "ترامب" والرئيس "بوتين" حاول التأسيس لمفهوم تقاسم النفوذ في المنطقه ووضع حلول لكافة القضايا خاصة التي تؤثر على أمن دولة "إسرائيل"، وأعتقد أن الحديث عن إتفاق الطرفين على الحفاظ على أمن "إسرائيل" في الشمال والجنوب مرتبط بتلك المقاربات التي حدثت في "هلسنكي"، على الرغم من أن ما يتداوله الإعلام الإسرائيلي يتحدث عن جزيئات هدفها دعائي أكثر من كونها تعبر عن حقيقة ما جرى، ويبدو أن موضوع الشمال "الجولان" و "مزارع شبعا" كانت من تلك المقاربات، بمعنى أن تحجيم الدور الإيراني ودور "حزب الله" في مواجهة "إسرائيل" تتطلب وضع الملفان أعلاه على طاولة المفاوضات وبرعاية روسيه بالأساس، ويبدو أن حكومة "نتنياهو" رفضت ذلك ولكنها وافقت على العودة مرغمة لإتفاق فض الإشتباك عام 1974 وإعادة قوات "الإندوف"، وما جرى في "درعا" ويجري في "القنيطره" يؤكد ذلك على الأرض، في حين المقاربه الفلسطينيه تأخذ بعد آخر ومعقد من حيث أن "غزة" تحت سيطرة "حماس" والعالم يتعامل فقط بشكل رسمي مع القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني متمثله في منظمة التحرير والرئيس "عباس"، لذلك كان لا بدّ من التزاوج القسري بين ملفي المصالحه وملف التهدئه.
المعضلة الأخرى، أن الحديث السياسي بما يتعلق بالواقع الفلسطيني يأتي في ظل إعتراف الرئيس "ترامب" بالقدس كعاصمة أبدية لدولة "إسرائيل"، والحديث المرفق بخطوات عملية لتقويض وكالة "الأونروا" أي تقويض حق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين، وكل ذلك جزءاً مما يُسمى زوراً "صفقة القرن"، في حين أن المطروح حقيقة "صفقة إقليميه" تشمل غالبية الملفات وبمجملها تُقارب عنوان واحد ووحيد وهو مواجهة "إيران" وتمددها في المشرق العربي بالذات.
ضمن السياق أعلاه، فإن التعامل مع الحراك بمفهوم التخلي عن غزة وتحت عناوين شكلية لا تمس جوهر القضية الفلسطينيه الذي أساسه الوحدة الوطنية والشراكه على برنامج تؤيده الأمم المتحده والعالم هي الخطوة الأولى لمواجهة الضعف الفلسطيني الذي يحاول "ترامب" وغيره إستغلاله، وتحصين الجبهة الداخليه هو الكفيل بمواجهة الخطر القادم وهذا لا يكون إلا في سياق مصالحه تستند للشراكه الوطنية، فالكل مسؤول والكل يجب أن يأخذ دوره في المعركة، ومواجهة الطبخه التي يتم طبخها لتصفية القضية الفلسطينيه والتي بدأت في "القدس" و "اللاجئيين"، أما الحديث الذي يكيل الإتهام هنا أو هناك فهو يخدم المخططات التي أصبحت جاهزة للتنفيذ.
الهدنة التي يتم تداولها ليست دقيقه لأنها بحاجة لطرفين ليوقعا عليها، و "إسرائيل" وغيرها من العالم والعرب لا يتعاملوا مع "حماس" كطرف شرعي، بل إن التعامل معها يأتي كأمر واقع، وفي ظل غياب منظمة التحرير والمصالحه فما سيحدث ليس سوى تفاهمات على تهدئة قد تجلب مستقبلا شرعية ل "حماس" يعترف بها العالم وتحت مفهوم التخلي الذي تمارسه قيادة منظمة التحرير الفلسطينيه الرسميه.
دعونا نضع النقاط على الحروف، ونقول: غزة إنسحبت منها "إسرائيل" من طرف واحد ودون أي إتفاق مع منظمة التحرير الفلسطينيه، لذلك فإتفاق "أوسلو" الميت لا ينطبق عليها بالمطلق وفقط ما ينطبق عليها التفاهمات التي حدثت حول معبر "رفح" والتي هي بحاجة لإعادة صياغه في ظل الواقع الجديد وفي ظل إتفاق جديد يكون أساسه "الهدنه"، أما محاولات الحديث عن مفاهيم ومصطلحات ك "عزة" مثل "رام الله" فهي بحاجه لمقاربه جديده، وحديث "الباب والمحراب" أيضا مصطلح يحتاج لتدقيق، لأن واقع الأمر يقول "الباب والمحراب" للجميع وفق شراكه وطنية وقانون ينطبق على الجميع من حيث السلم والحرب والسلاح والسلم الأهلي...الخ.
ليست "غزة" سوى عنوان للشموخ الفلسطيني والوطنية الفلسطينية، والتاريخ القديم والحديث يؤكد ذلك، وأهل "غزة" جزء أساسي ومهم وتاريخي من الشعب الفلسطيني وجُلّهم لاجئين يتوقون للعودة والتعويض وفقا لقرار "194" الصادر عن الأمم المتحده.
إن عنوان "التخلي" عن غزة لن يُفشل مخططات التصفيه القادمه ولن يؤجلها، بل يُنظر لها وكأنها محاولة دفع بشكل غير مباشر للتعامل مع تلك المخططات، ومن يتحمل المسئولية ويقود الشعب الفلسطيني عليه أن يجد الحلول الخلاّقه لإعادة السكة إلى مجراها، سكة الوحدة الوطنية والشراكه، وبقاء الإنقسام هو مدخل تلك المخططات، أما الحديث عن أن الجانب الأمريكي والإسرائيلي يريدون المصالحه فهو حديث منقوص، والصحيح، أن مصلحتهم تتطلب الآن عودة السلطة الوطنية ومنظمة التحرير لقيادة "غزة" لتكون العنوان الشرعي في عقد "هدنة" طويلة الأمد...إن إستغلال هذه اللحظة وإجراء المصالحه الشامله ستؤدي بالضرورة لتحسين شروط "الهدنة" وبما يخدم المشروع الوطني الفلسطيني، أو أن تجري تهدئة على أساس مفهوم التفاهمات لإنقاذ غزة من الحصار والتجويع ومنع إيجاد ثغره تنفذ منها مخططات تصفية القضية الفلسطينيه.
الصفقة "الإقليميه" مطروحه بقوة والجانب الضعيف هو الفلسطيني، وحتى لا تكون الصفقة القادمه على حسابه، لا بدّ من "غزة" وبكل ما فيها، فهي الوحيدة القادرة على مواجهة تلك المخططات وهي الوحيده القادره على إفشالها...ألا ليت البعض يتذكر أن أهل "غزة" سبقوه في الوطنية وهم من أسسوا للوطنية الفلسطينية، وفلسطين المنظوره لا تتأس بدون "القدس" و "غزة"، فالقدس العاصمة والأقصى وقبة الصخره وكنيسة القيامه والبلدة القديمه، وغزة هي البحر والميناء والمطار الذي سيطل على العالم الخارجي، والضفه ستبقى يتيمه وعاجزة بدونهما.
بقلم: فراس ياغي