بداية نقول سقوط جدار الحماية الديني من وعي الجمهور لا يسقط الدين وسقوط جدار الحماية الوطني أيضا لا يسقط الوطنية بل في كلتا الحالتين يسقط حاملي الشعار والداعين إليه نتيجة الخلل في إدارة وصيانة وصدقية هذه الشعارات وكيفية إستخدامها وتطابقها مع سلوك حامليها من عدمه في سياق تحقيق الهدف المقصود.
غزة جزء من فلسطين وفلسطين جزء من بلاد الشام وثقافة غزة الوطنية والدينية لها علاقة بالجذور العميقة في التاريخ وهي منطقة حدودية في أقصي الجنوب الفلسطيني وآخر نقطة لإلتقاء حدود قارتي أسيا مع أفريقيا.
هذا الموقع الأستراتيجي النوعي والحيوي الخطير لقطاع غزة لعب دورا في تكوين وتطور الشخصية الغزاوية وتشكيل ثقافة سكان هذه المنطقة.
كانت غزة علي الدوام ممرا للغزوات البرية لمصر مركز العالم القديم قبل إختراع السفن والطائرات ومازالت مركزا سياسيا وحضاريا في العصر الحديث وكل الغازين لمصر المارين من هذه المنطقة تركوا جزء من بقاياهم وثفافتهم وأثرهم علي تكوين الشخصية الغزاوية بدءا من العصر القديم مرورا بالعصور الوسطي وانتهاءا بالعصر الحديث وآخر الغزاة المارون من هنا كانت إسرائيل حين إحتلت غزة وسيناء في العام 1967م.
من المفيد أيضا أن نذكر في سباق حديثنا عن هذه المنطقة الحدودية أن شمال سيناء ومجاورته لقطاع غزة يتشابه إلي حد ما مع الصفات الشخصية الغزاوية علي الجانب الآخر من الحدود وإن بفارق جوهري في التعليم والمدنية لسكان غزة تفوق في مجالات عدة عن النظام القبلي والبداوة وطبيعة الصحراء لسكان شمال سيناء.
بتتبعنا هنا قضيتي الوطنية والدينية نكتشف في غزة أنه بالرغم من أن الغالبية العظمي من سكانها الحاليين هم من اللاجئين الذين هجروا إليها من كل مناطق فلسطين وغالبيتهم من مناطق الوسط والجنوب الفلسطيني في عام النكبة 1948 إلا أنهم إنصهروا في ثقافة القطاع الجديدة عليهم في ذاك الحين وإنصهروا وأصبحوا بنفس الشخصية الغزاوية الآنية التي تشكلت بتأثير عناصر هامة كالموقع الجغرافي كمدينة طرفية وليست مركزا وكذلك موقعها الحدودي المتأثر بغزوات متعددة وتعاقبا للادارات والحكام ومرورا لأديان وعقائد عدة و الأهم في هذه الجزئية هي حالة تغيير العقائد المستمرة طوال تاريخ المنطقة وهذه النتيجة الهامة الأولي.
قطاع غزة هو أقصي الطرف الجنوبي لفلسطين وفلسطين كلها هي أقصي جنوب بلاد الشام، وهنا النتيجة الهامة الثانية التي تنتج عدم الولاء لمركز الحكم حيث الصفات المجتمعية لسكان الحدود والأطراف عامة وفي هذه البقعة بالذات التي ربطت ببن قارتين مختلفتين تماما وكان ولازال من الطبيعي وفي الغالب ألا تكون مناطق الحدود بين الدول مأهولة بالسكان منذ القدم وكانت المدن أقرب لمركز البلاد وبعيدة عن الحدود وتفصلها الصحراء أو الأراضي الزراعية لعلاقة ذلك بالحروب بين الجيران وغزوات الأجنبي إلا غزة كانت جالسة ورابضة كمدينة مأهولة بالسكان في بقعة يحدوها البحر غربا وصحراء سيناء جنوبا وصحراء النقب شرقا علي مر التاريخ وهذا أيضا يلعب دورا في تكوين شخصية الغزازوة التي يغلب عليها عدم الثبات في العقائد كما قلنا في النتيجة الأولي وفي النتيجة الثانية وهي عدم الولاء للحكام في مركز الحكم.
ويعمل سكان الأطراف والحدود في التهريب ونقل الحاجيات من دولة إلي أخري ويبدعون في عمليات البيع والشراء وخاصة التجارة السوداء في أغلب الأوقات ولا تنضبط هذه التجمعات الحدودية للحكام وغالبا ما يحدث ما كان يسمي الخروج عن الحاكم الذي يطلق عليه اليوم مصطلح التمرد لبعدها عن الضبط السريع للحكام في المركز وتركها دون تنمية بالمصطلح الحديث فتبلورت هذه الشخصية القوية القاسية أحيانا وهذه نتيجة ثالثة هامة في تكوين الشخصية الغزاوية.
وشعور سكان غزة الداخلي الناتج عن العناصر السابقة والشعور المتواصل بالحرية والاستقلال والتمرد في تسيير حياتهم بمفاهيمهم المتقلبة وتغلبيهم المنفعة والمصلحة علي كل شيء وهذه نتيجة رابعة هامة.
ولكنهم أي سكان مثل هذه التجمعات يتمسكون لأبعد الحدود بمسقط رأسهم وأرضهم وهويتهم ومن هنا تكرست وتعمقت فيهم صفات الدفاع عن الأرض والمكان الذي يعيشون فيه يفوق شعور الانتماء الذي سمي بالوطنية والهوية لاحقا وهذه نتيجة هامة خامسة.
وكما نوهنا أعلاه بأن هناك تشابه إلي حد ما بين سكان شمال سيناء وسكان قطاع غزة أنتج تلك التغيرات الدراماتيكية التي حدثت مؤخرا مثل التزمت والتطرف العابر للبعض منهم وليس تعميما شاملا للجميع وليس تأصلا دينيا أو عقائديا لكنه تبلور بعد مراحل طويلة من التقلب الفكري والفراغ الديني وهموم الأحتلال والغزاة.
كان الالتزام الديني ليس كبيرا وليس متعمقا قبل العقود الثلاث الماضية علي طرفي الحدود وظهور ما يسمي المشروع الإسلامي في المنطقة والذي حمل صبغة الاسلام السياسي وصلت العدوي لجماعة من الناس علي طرفي الحدود الذين كان تدينهم طبيعيا وسطيا في أحسن الظروف وكان قد وصل لدرجة إهمال القيام بشعائر الدين ونسيانها وفجأة تلاها تطرف البعض الذي في الحقيقة هو ناتج ونتاج سكان مصلحجيون من الطراز الأول علي طرفي الحدود تمثلت في منافع اقتصادية وكسب المال السياسي المضخوخ من الخارج وتقديم للمصالح الذاتية والعائلية البحتة وليس تدينا أصيلا كما قلنا في صفات سكان المناطق الحدوية وليس تدينا عميقا متواصلا تنبثق منه أحيانا جماعات التطرف الديني وهو لا يشبهون زملاءهم الارهابيين القادمين من خارج المنطقة ولكنه تدين المصلحة المالية في الاساس وإنظر للعمار والبنيان وكم المال و الممتلكات والغني الفاحش وانتعاش اقتصاد منطقة كالشيخ زويد التي كادت أن تتقدم علي العريش المدينة المركزية بفعل الأموال التي مولها للسكان داعموا التطرف والارهاب قبل سيطرة الجيش المصري عليها. وبنفس الظروف عم مدينة رفح الفلسطينية علي الطرف الآخر من الحدود الازدهار والغني والعمران بفعل التهريب والأنفاق وتجارة السلاح والتمويل والتسهيل للجماعات الاسلامية وبعضها البعض.
كل هذه المقدمة الطويلة لنصل إلي ما جري لموضوعتين لهما علاقة بعنوان المقال وبوضع غزة المأزوم وحتي سيناء وجماعات الارهاب الذي نما بشدة في السنوات العشر الأخيرة لنقول :
أن المواطن الغزاوي ليس متدينا أصوليا متطرفا بالضبط كما باقي سكان فلسطين والفلسطينيون عامة هم غير متزمتين ولا أصوليين ولا متطرفين دينيا أصلا وكذلك سكان شمال سيناء يعني شعبنا الفلسطيني غير متدين في الجذور ولكنه في المقابل تاريخيا ثابت الوطنية بالمعني الأكبر حتي من الإنتماء لوطن وليس شوفينيا إلا بتمسكه بموقعه الجغرافي وسبل حياته وما يعود عليه من منافع ومصلحة يقدمها علي كل الأشياء.. بمعني أنها شخصية مصلحية أو مصلحجية لأبعد الحدود وهذه نتيجة هامة سادسة.
تعالوا إلي بيت القصيد من هذا المقال الذي فردت له مقدمة تاريخية طويلة واستنتاجات هامة لنقول:
إن الإنقسام الأخير بين فتح وحماس الطارئتين علي التاريخ والجغرافيا الغزاوية كأحزاب سياسية حديثة وعابرة قد أساءتا للشخصية الغزاوية وأخطأتا قراءتها من ناحيتين:
الأولي فساد السلطة الأولي سلطة فتح وفشل إدارة قطاع غزة ومحاولة الضبط بالقوة التي وصلت أحيانا لحالة من الكسر والإذلال والتحايل علي جماعة سكان يشعرون بشخصيتهم القوية، الناتج من عدم فهم سلطة الحكم الفتحاوي و عدم تفهمهم لخصوصية هذا التجمع البشري السكاني وعدم فهم جذور المعضلة الحالية التي تلف غزة ونتائجها الخطيرة علي الشخصية الغزاوية فتواصلت السلطة المركزية في عقابهم وقمعهم عن بعد في رام الله وأدي ذلك باختصار شديد لفقدان أو سقوط جدار الحماية الوطني هذا الشعار الذي بناه المواطن في غزة بوطنيته المتأصلة كما ذكرنا أعلاه وهذا أدي لسقوط رافعي راية الوطنية دون أن يفقد المواطن الغزي وطنيته المتمسك فيها علي الدوام ولازال يمارسها في كل حين ويدفع الدم والشهداء ورغم سقوط جدار الوطنية في ذهنه عن حاملي شعاراتها..
في المقابل لو انتقلنا للعشر سنوات الأخيرة وحكم حماس وبنفس الفهم المغلوط المبني علي غطرسة القبضة الأمنية والظلم الاجتماعي والوظيفي وغياب العدالة الاجتماعية وتصور حالة التدين الجديدة في غير موضعها المصلحي النفعي للسكان من قبل القادة الحمساويين وهي نتيجة هامة تحدثنا فيها أعلاه فقد سقط أيضا جدار الحماية الديني في ذهن غالبية سكان غزة هذا الشعار الذي رفعته حماس وبناه المواطن متأخرا نتيجة لسلوكيات سلطة حماس وتمييزها المرفوض دينيا بين الناس وما فسد ااحمساويون فيه من الجاه والسلطان والخيلاء والكسب الخاص والفئوي ونسيان وإهمال مصلحة السكان أو تناسيها وتضارب المصلحةوجزء كبير من السكان إلتحق بهم من أجل الراتب كما فعلوا سابقا مع سلطة ياسر عرفات وأخطأت حماس التقدير مثلها مثل سلطة فتح ولكن!!
ما كسرته حماس كان أخطر من حيث رفعها شعار الدين وهي لله وبسلوكها المتناقض مع الشعار فأبطلته وأسقطت جدار الحماية الديني للشخصية الغزاوية بتصرفاتها العامة والخاصة فأسقط الغزاوي جدار الحماية الديني بتضارب المصالح والفساد الحمساوي ومخالفة سلوكهم لشعاراتهم الدينية وبات بلا جدار حماية وطني ولا جدار حماية ديني أي سقط شعار فتح الوطني ولم تسقط الوطنية وسقط شعار حماس الديني ولم يسقط الدين.
بعد هذه المقدمة الطويلة لتأصيل الواقع الفكري والوطني في فلسطين ومنها للحالة الخاصة جدا لقطاع غزة موضع العنوان والمقال نعود لنتحدث قليلا عن غزة إلي أين؟
بعد سقوط البيريارز كما العنوان Barriers والباريارز هي كلمة إنجليزية معناها جدران أو جدر أو أسوار أو حواجز أو حوائل الحماية نقول:
الإنسان بشكل عام في مسيرته الحياتية يصيغ فكره وعقله بثقافة مجتمعه وينتج منها جدران حماية كثيرة وخاصة، مثل حماية الذات والفكر أي العقيدة والهوية وحتي عندما ينمي عضلاته فهي تصنع له جدار حماية مادي للدفاع عن الذات والقدرة علي العمل والحمل الثقيل وهي قضية مادية حسية ملموسة أما القيم والمعتقد والوطنية فهي قضايا عقلية معنوية تقوي الايمان وتمنح الشجاعة وتنظم الأخلاق وتجعل الإنسان في حالة توازن نفسي وسلوكي لأنها تعمل كحوائط صد للخطأ والخطر وحماية للشخصية فعلا ولكن عندما تسقط جدران الحماية أو تنهار يصبح الانسان ضعيفا وفي مهب الريح عقليا ونفسيا ومعرضا للخطر تماما كما يحدث جسديا ونفسيا أيضا عندما تنهار جدران الصحة والمناعة ومقاومة المرض في الجسم فيصبح الجسم هزيلا لا يقدر علي الحركة والعمل ويصبح عرضة للأمراض واستهزاء الأقوياء في المجتمع وحتي الضعفاء من الميكروبات.
في غزة سقط شعار الوطنية وفسد الوطنيون في السنوات الأولي للسلطة ولم تسقط الوطنية في المجتمع الغزي لكن عناوين الوطنية قد سقطت علي مذبح فشل الادارة والفساد والأنانية والانتهازية والكسب غير المشروع وأخيرا بعقاب أهل غزة وقطع مخصصاتهم وتقليص خدماتهم من السلطة المركزية في رام الله ودون تحرير فلسطين فكانت الضربة الأولي للعقل والمعني الغزي رغم التاريخ الوطني الكبير والمشرف لقطاع غزة في مقاومة الإحتلال وبهذا سقط ممثلوا هذا الجدار الحامي للعقل والشعور الغزي وفي فلسطين عامة.
وبعد العقد الأول جاء الاسلاميون للحكم ونمت شوكتهم وإستولوا علي غزة بالقوة رغم أن الشعب إنتخبهم ولكن مسيرتهم أيضا تكللت بالفشل الذريع إلا من حماية أنفسهم بقوة السلاح وبسيطرتهم علي غزة ومقدراتها وقد خبرهم الجمهور ورأي كيف يتصرفون مع الديني المخالف قبل العلماني والوطني المناوئ وكيف سقط جدار الحماية الديني من عقل الناس وهم يرون كيف تحولت المساجد لمكاتب حزبية ومراكز تحقيق واستخدام العنف وإقتناء السيارات الفارهة والمكاتب المخملية والكهرباء المتواصلة لقادتهم واجهزتهم في الوقت الذي يعاني فيه المواطن الأمرين وأشياء كثيرة لا مجال لذكرها وقد تحدث وكتب عنها الناس والكتاب وخبرها الجمهور الغزي جيدا.
خلاصة القول، في العقدين الماضيين سقط جدار الحماية الوطني وسقط جدار الحماية الديني من عقل الغزيين نتيجة لسلوك الاسلاميين حماس السلطة والوطنيين عباس السلطة والكومبرادور المالي والدولة البوليسية ولم تسقط بالطبع الوطنية ولم يسقط الدين بل سقط حاملي الفكرتين وتواصل وتعمق السقوط بتلاعبهم بمصير ومقدرات ومعاناة سكان قطاع غزة الفلسطينيين وفئويتهم وذاتيتهم في عدم إنجاز المصالحة وإدارة الإنقسام حتي اليوم وأصبح أهل غزة في مهب الريح العقلي والنفسي والوطني والديني رغم ممارستهم للفعاليات الوطنية وممارستهم لدينهم وعبادتهم ولكن الحذر من حالة سكان غزة التي تزداد ضعفا وإذلالا وعقوبات وهم ضعفاء في مهب الريح وبإستمرار هذا الوضع المأساوي هم ذاهبون إلي أحد طريقين وسيأخذهم إليها من يفهم أو يستغل حالتهم النفسية والعقلية والاقتصادية والمجتمعية فإما إلي غياهب التطرف وداعش أو علي شاكلتها إن لم تكن أكثر عنفا وتطرفا، أو منقذا يحمل فكرة تعيد لهم التوازن وجدر الحماية من جديد والفارق بين الخيارين كبير وفارق كالموت والحياة رغم سهولة خيار التطرف والموت والتمويت وصعوبة خيار الحياة والإحياء من جديد.
بقلم/ د. طلال الشريف