لم أكن أحبذ الكتابة حول الأزمة الدبلوماسية القائمة بين المملكة العربية السعودية، وكندا بتفاصيل، وتحليل معمق كما سأسرد في مقالتي هذه ، التي لن أجامل فيها جهة على حساب الأخرى كما تعودت في كل كتاباتي في مواضيع سياسية أخرى، ولن أجافي الحقيقة، والوقائع القائمة التي تدعم وجهة نظري حول هذا الخلاف .
الكثيرون يعرفون عني أنني أميل إلى كندا وجدانياً، وعاطفياً بقدر حجمها العظيم الذي يليق بها وقناعة مني بأنها تستحق كل الإحترام والتقدير، حيث أن تجربتي مع كندا هي تجربة إنسانية غنية وليست مجرد تجربة عابرة، هي حكاية إنسان كادت أن تحطمه الظروف، ولكن شاء القدر أن يكون كندياً محمياً بقيم كندا التي تضع الإنسان في قمة أولوياتها ، في حين غابت كل المعاني الإنسانية السامية عند بعض الأشقاء لافتقارهم للحد الأدنى لقيمة الإنسان والقيم الأخلاقية بسبب غطرسة مشاعرهم وفراغ عقولهم وتيه سلوكياتهم.
من هنا أستطيع القول بأن كندا علمتني كيف أكون شجاعاً في قول الحقيقة كما هي دون رياء أو مجاملة، حيث أن سقف حرية التعبيرعن الرأي عال والقيمة الإنسانية والكرامة الإنسانية أيضاً للمواطنين محفوظة وتأتي على رأس أولويات الدولة الكندية.
لذلك لا أرى أن كندا معصومة من الخطأ في اجتهاداتها السياسية، فهي من الطبيعي قد تصيب وقد تخطئ، وهذا هو حال السياسة بشكلٍ عام، وإن كانت الترجمة العربية لتغريدة السفارة الكندية في السعودية التي نُشِرت في يوم 5 / 8 مزعجة وكانت مثيرة للإستفزاز للمجتمعات العربية بشكلٍ عام، وللمجتمع السعودي بشكلٍ خاص لما لها من خصوصية صحراوية وعشائرية، وبدوية، حيث أنها لا زالت تحافظ على موروث الأجداد الذي يرفض في مفاهيمه لغة الأمر الفوقي بالمخاطبة، والتي يجدون فيها تعدياً سافراً على الثقافة الموروثة وعلى الكرامة الإنسانية خاصة عند المخاطبة بكلمة فوراً في سياقات بعيدة عن سياقات التوادد والتحابب، حيث يفسرها العرب بأنها تمثل علاقة غير محببة بين العبد وسيده أو بين المأمور وآمره ولذلك هي لغة مرفوضة لديهم وتستفز مشاعرهم!.
ولكن هذا الأمر إن حدث لا يعني أن حروباً تقوم ورؤوساً تطير، وعلاقات تُدَمر وتهديدات عالية السقف تُثار، بل يكون هنكا منطقاً في التعاطي، حيث تُعطى دائماً مساحات من المراجعة والحوار والعتب وإيجاد طريقة مناسبة لتجاوز سوء الفهم أو معالجة الخطأ اللغوي ، والسقطة بالتعبير بدون المساس بكرامة وهيبة أي طرف.
لكن في حالة النزاع الدبلوماسي ما بين السعودية وكندا، نجد أن هناك إمعان في الردود العنيفة المبالغ فيها، لا تتناسب بالمطلق مع حجم الحدث الذي وجد من يغذيه، حتى بات الأمر لا يتعلق بتغريدة على التوتير بالإمكان تسوية أمرها بسهولة عبر القنوات الدبلوماسية والسياسية الرسمية، حفاظاً على العلاقات التاريخية بين البلدين، والمصالح القائمة بينهما، ولكن ما يحدث الآن هو العكس تماماً ويسير بسرعة مجنونة تحتاج لتفسير وفهم الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ذلك!.
هذا يأخذنا في الواقع الى التساؤل ، لماذا الدنيا قامت ولم تقعد، وحصلت كل هذه الضجة تجاه التغريدة المترجمة باللغة العربية، وتم تجاهل التغريدة الأصلية التي نشرت باللغة الإنجليزية على نفس صفحة السفارة الكندية في الرياض والتي نٌشرت قبلها بيومين فقط وبالتحديد يوم 3 / 8 ؟!، حتى أننا لم نسمع بها أصلاً؟!، ولم يكن هناك أي ضجيج حول هذا الأمر!، أليس في هذا ما يثير الدهشة والتساؤل والإستغراب؟!.
هذا الأمر في الحقيقة مريب ومثير للشك ويفتح بوابة التساؤل حول أهداف هذه الضجة إن أخذنا بعين الإعتبار توقيت الإجراءات السعودية العنيفة ضد كندا !، خاصة أنها جاءت متزامنة مع عطلة البرلمان الكندي، وهذا معروف أنه يؤثر نوعاً ما على أداء الحكومة ، كما أن هذه الأزمة جاءت بعد عدة أسابيع من انتهاء إنعقاد مجموعة السبع الكبار في 8 يونيو 2018 في مدينة كيبيك الكندية، والتي كان نجمها الأول رئيس الوزراء الكندي، الذي اتخذ مواقف تاريخية صارمة من بعض القضايا التي لم تعجب بعض دول هذه المجموعة في حينه، وهذه الدول نفسها لها علاقات تحالف ومصالح قوية مع السعودية!، والدول التي ساندتها ضد كندا في أزمتها معها!، فهل جاءت هذه السلوكيات السعودية العنيفة التي لا تتناغم بالمطلق مع حجم الحدث! ، في سياقات تتناغم مع أهداف غير معلنة لإحراج رئيس الوزارء الكندي وحكومته، والمساس بهيبتهم؟!.
إن مطالبة السعودية لكندا لرفع التويتة التي تسببت بالأزمة، والإعتذار عن ذلك بشكل علني بالتزامن مع الخطوات، والإجراءات الضاغطة التي إتخذتها ضد كندا، هو أمر يحتاج الى إعادة نظر وفتح الباب أمام الحوار الصادق والجدي، حيث أن ردود فعلها الضاغطة على كندا، والتي باتت تهدف للمساس بهيبة كندا ومكانتها الدولية، دفعت رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو لرفض ذلك، ورفض الضغوطات أياً كانت لدفع كندا عن تعديل موقفها من قيمها ومبادئها، وذلك من خلال التأكيد على أن كندا ستعبر دائماً عن موقفها بقوة وبوضوح، سواء في الخفاء أو في العلن، بشأن حقوق الإنسان، وأنها ستواصل الإشارة إلى التحديات أينما وجدت في السعودية أو في أي مكان آخر، مما وجد إستحساناً لدى الشعب الكندي ودعماً شعبياً عارماً.
إذاً الأمر كان يحتاج إلى حكمة وحوار هادئ، والتعاطي بدبلوماسية منفتحة كانت قد تؤدي إلى الحصول على توضيح وتفسير ونتيجة مرضية للجميع، ولربما الحصول أيضاً على إعتذار عن إستخدام كلمة فوراً المثيرة للإستفزاز إن كان الأمر يسير في هذا السياق بالفعل، ولا يحمل أي أهداف أخرى!، لكن للأسف الأمور ذهبت في اتجاهات مثيرة للدهشة.
إن كندا لمن لا يعرفها ويزايد عليها اليوم هي دولة مؤسسات، ودولة قانون، ودولة ذات سيادة لها مكانة دولية، وعالمية متقدمة، ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن تخضع للإبتزاز الذي يمس بهيبتها ومكانتها من أي طرفٍ كان، والسعودية أيضاً هي دولة عربية، وإسلامية كبيرة وذات وزن وتأثير ولها مكانتها الدولية، والإقليمية، وفِي تقديري أنه كان من المفيد لها، وللجميع التريث وعدم التصعيد بهذا الشكل المتسارع، وغير المسبوق دبلوماسياً، حيث أنها ليس بحالة حرب مع كندا، وكان ولا زال بالإمكان لملمة الأمر، وحصره بالقنوات الدبلوماسية فقط، بعيداً عن الشوشرة الإعلامية التي تعمل على إثارة الفتن والبلبلة، إلا إذا كان هناك أهداف أخرى داخلية، وخارجية متفق عليها من وراء الستار بين عدة أطراف من خلال خلق هذه الأزمة، والعمل على تفعيلها إعلامياً، وتصعيدها بهذا الشكل الصادم، والمثير للإستغراب! .
أخيراً لا زلت أرى أن هذه الأزمة بين الدولتين الكبيرتين ما هي إلا سحابة صيف عابرة ستجد طريقها للحل قريباً ولن تطول !، لأن كلا الدولتين سواء كندا أو السعودية هما دول ذات سيادة، ولهما مصالح إقتصادية، وسياسية، وأمنية أهم بكثير من التوقف عند أحداث صغيرة، وكلمات عابرة سواء تم إستخدامها بطريقة غير موفقة، أو تم تفسيرها بطريقة خاطئة، حيث أن كندا لم ترتكب خطيئة لتعتذر عنها علناً، وكندا حكومة وشعباً، ومعارضةً باتت يداً واحدة، وأكثر توحداً في موقفها الذي يحمي قيمها ويؤكد على التمسك بها، ويعزز من مكانتها ولا يوجد لديها سبب لتتراجع عن ذلك، أو أن تعدل عن موقفها الذي يحمي أهم ركائزها، وقيمها التي قامت من أجلها!، ولكنها بالتأكيد قادرة على العودة عن الخطأ والعمل على تصحيحه إن وجدت نفسها يقيناً أنها أخطأت وذلك ضمن الأصول المعمول بها بين الدول وليس تحت ممارسة الضغوطات التي تمس بهيبتها ومكانتها وكرامتها، أما السعودية الشقيقة، والصديقة فهي قادرة دبلوماسياً وأخلاقياً على إعادة النظر في إجراءاتها التي إتخذتها، واللجوء الى الدبلوماسية المتوازنة الرصينة لحل هذه الأزمة التي تمثل سحابة صيف عابرة وليس لها علاقة بالمطلق بالأمن القومي السعودي ولم تهدف إلى المساس بإستقرارها، بعيداً عن التشنج والتصعيد غير المبرر، بل من خلال التذكر أن كندا دائماً كانت تفتح أبوابها أمام السعوديين للتعليم والعلاج والإستثمار حتى في أصعب الظروف التي مرت فيها السعودية!.
م. زهير الشاعر