الرسالة العاشرة

بقلم: فراس حج محمد

أسعدت أوقاتا أيتها المحتجبة كروح والسارية في دمي كضوء، أما بعد:

كثيرة هي الأحداث التي مرت بي مؤخرا، أحاول أن أوافيك فيها، لعلك تسمعينني فتتعاطفين معي. أو ربما انحزت إلى الطرف الذي لا يراني جديرا بالقراءة، ولا أستحق أن أكون كاتبا.

أبدأ بما نشرته الكاتبة اللبنانية مادونا عسكر من مقالها التحليلي حول إحدى المقطوعات الشعرية القصيرة، ثمة من رأى في النص أنه "تافه لا دلالة له". لم أنزعج بالتأكيد من التعليق، فلكل رأيه، وكما قلت مرارا نحن لا نكتب وحياً مقدسا لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، بل إننا جميعا، الكتاب، نعترف في قرارة ذواتنا أننا كتبنا نصوصا ضعيفة أو سيئة ولكننا لا نستطيع التخلي عنها لحاجة في نفس يعقوب. ونقتنع أن ما وصلنا له لم بكن سوى مرحلة وخطوة لخطوة أبعد محلوم بها، لذلك ستلاحظين كما لاحظ صديقنا رائد أنه "لا شيء يعجبني" مما كتبت، فعندما أعود إليه لا أرى أن معظمه جيد أو يستحق القراءة والخلود.

وفي مقابل ذلك هناك تعليقات تفرح الكاتب وتجعله يزهو منتشيا، ولا غرابة في ذلك، فانتصار الكاتب الحقيقي هو أن تحوز كتابته رضا القارئ، لاسيما إذا كان القارئ مثقفا أو كاتبا، فعندما يرسل لي أساتذة جامعات إطراء لنص كتبته أجد نفسا راقصا مزهوا، وخاصة إذا كان هذا الأستاذ أو ذاك ذا قدم راسخة في عالم النقد والأدب. فرحت جدا مثلا بآراء أصدقائي الكتاب فيّ، ولو أردت تعدادهم لاستهلكت كلاما طويلا، ربما لا تجدين منه طائلا. صحيح أن بعضهم انتقدني بشدة وأحترم ذلك، لكنهم بالتأكيد كانوا منحازين بصورة أو بأخرى للنص وبجانب ما من جوانب فنيته.

سأعود إن سمحت لي إلى تعليق رائد الحواري على الرسالة السابقة، بعد أن قام مشكورا بنشرها على صفحات الفيسبوك، أردف الرسالة بتعليق طويل، قال فيه: "رسالتك هذه كانت (قاسية ومؤلمة) جعلتني أتأكد بأنك ـ كشاعر ـ لا يمكن أن يلبي طموحك أي شيء، ولا يريضك شيء، فأنت مثل "سدهارتا" كلما وصلت إلى مرحلة تجدها تافهة، وتريد أن تتقدم أكثر، وهذه حالة طبيعة عند الشعراء، لكنني أنا، القريب منك، أشعر أنني أخفقت في إخراجك مما أنت فيه من كآبة، يأس، قرف، غربة، لهذا أقول إن رسالتك كان وقعها عليّ شديد الوطأة، وآلمني ويؤلمني، أما فكرت بي، وبما سأكون فيه بعد هذه الرسالة؟ فراس الشاعر والصديق هو غايتي وهدفي، لهذا عندما أجدك مبتهجا أبتهج، وعندما أراك غير ذلك أكون أنا أيضا، لك محبتي، وسأكون كما أنا، لن أخذل نفسي، فأنت هدفي وغايتي، إلى أن تصل إلى ما تريد".

أصدقك القول إنني عندما رجعت إلى الرسالة مرة أخرى وقرأتها، انتابتني حالة من الصدمة، والخوف، والشعور بالخيبة إلى ما يقارب الخزي، كيف كتبت تلك القسوة وبهذه الطريقة، إلى

درجة أنني قد بكيت من سوء ما فعلت يداي. ولكنني وإلى الآن لا أدري ما هو موقفك من تلك الرسالة؟ بل رسائل كثيرة سابقة، التزمت حيالها الإطباق على القلب والفم، وأنا أغدقت فيها ثرثرة وصأصأة.

وأما بخصوص قراءة الكاتبة مادونا عسكر التي افتتحت بها هذا الرسالة، فقد كانت قراءة تحليلية، متأنية، مفاجئة، على نحو شهي، نعم، فأنا أشتهي القراءات الرصينة الجليلة التي تغوص في أعماق النص، أحببت فيها ذلك الإيقاع الموحد للتحليل الذي يسير بتناغم وسلاسة منطلقا من اللفظ إلى المعنى ومعنى المعنى وصولا إلى الحالة الكلية للنص أو الحالة النفسية للشاعر. وبعيدا عن التعليق الذي ذكرته لك سابقا حول النص. يكتب الأستاذ محمد بن جماعة، وهو شاعر تونسي رصين، هذا التعليق على النص: "يتبدى لنا في هذا النص الشعري حذق وصفي نابع عن مهارة المشاهدة والتأمل في مساحات لا تغادرها الحركة إطلاقا، بداية من الحلم وصولا إلى الفلسفة ومرورا باللحن والرقص والضوء. كلها تنبئ بتفاعلات ذاتية شديدة التراكم، حيث كان هنا الفعل الوصفي أقوى من الفعل (Le verbe) أضعافا.. فالوصف بالتالي أصبح المتنفس الوحيد لشاعر باحث عن الحقيقة يروم المسك بمعناها المنشود والمفقود في ذات الوقت، حتى وإن صبّ كامل وصفه. لم يلق إلا الغموض. قد تكون المرأة أو الوجود كجوهر، بالتالي يلتف المعنى على هذه الثنائية ويدحرجها ككرة ثلج."، ولعلك ستسألين: أي نص؟ فسأوفر عليك معاناة البحث، فهاك هو:

"قاسية كحلم البارحة

رهيفة اللّحنِ

هاربة على شفا حفرة من أداء الرّقصِ

موجعة كغصنٍ مثقلٍ بالثّمرْ

عاريةٌ كضوءْ

واضحةٌ كأسرارِ النَّبِيّْ

بين يديّ وحيْ

غامضةٌ كفلسفةٍ وجوديّةْ

وفيها كلّ شيّْ"

لعلني كنت محظوظا كثيرا في الفترة الأخيرة، وقد ساهم هذا في تبديد ما تلبد في صدري من كآبة: مناقشة الديوان في دار الفاروق، وقراءة الحبيب بلحاج سالم، وقراءة مادونا عسكر، وانتشار مقالاتي الأخيرة في كثير من المواقع الإلكترونية والصحف، خصوصا مقالتي عن محمود درويش في ذكرى وفاته العاشرة، ما يعني قراء أكثر بالضرورة، وبكل تأكيد.

لقد قرأت هذا الصباح مقالة للشاعر شوقي بزيع عن درويش، منشورة في صحيفة الشرق الأوسط، ما لفت انتباهي أنني ما تحدثت عنه في مقالتي تحدث عنه شوقي بزيع، وهو بالتحديد

علاقة درويش بالمتنبي، وسيرورة شعر درويش، بل إن كثيرا من الجمل التي أوردتها أوردها شوقي بزيع أوردتها في مقالتي، وكذلك فعل الكاتب اللبناني إلياس خوري في حديثه عن صديقه الشاعر، فقد كتب مقالا طويلا، ورد فيه علاقة الشاعر درويش بالمتنبي الشاعر.

يبدو أن الأمور لن تأخذ منحى واحدا، فلا شك أن فيها محطات سوداء قاتمة، ولكنها بالتأكيد تمنحنا أحيانا وقتا للفرح، كم أسعدني مثلا أن طالبة دكتوراه قد استعانت بمقالة لي حول رواية أحلام مستغانمي "الأسود يليق بك"، وكانت رسالتها عن "النقد الأخلاقي"، وقد سبق أن استعان أحد الباحثين نشر مقالة محكمة في مجلة محكمة في إحدى جامعات العراق الكردية بمقالة لي حول اللغة العربية، لا شك أن كل هذه المواقف تشعرني بالسعادة، أتذكر ما أبلغني به الدكتور عادل الأسطة يوما أن أحد الباحثين كتب حول "خطب الديكتاتور الموزونة" بحثا، وكان الدكتور الأسطة أحد المحكمين، فرفض الأسطة البحث لأن الباحث لم يأت بجديد على ما قدمت أنا في بحثي يوم كانت تلك القصائد موضع دراستي في الدراسات العليا. بل على ما يبدو أن الباحث لم يطلع على ما كتبت، كل ذلك أشعرني بأهمية أن أكتب وأن أستمر في الكتابة.

على العموم ما زلت أبحث عن ناشر للكتب النقدية التي جهزتها للطباعة، لا أدري هل سيحالفني الحظ، بعثت اليوم لدار نشر في الأردن مستفسرا عن ذلك، أسأل الله التوفيق. على الرغم من أن دور النشر والكتاب يشكون من قلة النقد، ولكنهم عندما يصلون إلى ما كتبت، لا يتشجعون ولا يغامرون فينشرون الكتاب. مغامرة أن تصدر كتابا لناقد غير معروف، فسوف تتكدس النسخ في المكتبات ولا تجد شاريا، كما أخبرني أ. صالح عباسي أنه لم يبع من كتابي "قراءات في الرواية" سوى عشر نسخ، وبدا نادما على ما يبدو لأنه أضاع مبلغا من المال فيما لا نفع فيه، فلو نشر رواية لكاتبة سيكون المردود أفضل، أو نشر رواية لكاتب معروف من تلك الأسماء التي تعرّش في الساحة الأدبية، وذات سلطات ليست بالضرورة ثقافية، فربما كان ذلك أجل وأعظم شأنا.

ربما حدثتك في رسالة قادمة عن ذلك الهجوم الذي شنّه القراء عليّ عندما نشرت مقطع فيديو لراقصة تتلوى كأفعى، فلم ينتبهوا للأغنية المصاحبة وجميعهم فقط ذهلوا لروعة الرقص، ولكنهم بعد أن متعوا نظرهم بها، انهالوا عليّ بالشتائم، ومارسوا عليّ الوعظ والإرشاد، فشعرت أنني الكافر الوحيد المتبقي من قريش، وأن الناس كلهم أنبياء وقديسون وصالحون.

طالت هذه الرسالة كثيرا، فلتسمح لي جلالتك أن أقول في ختامها: سلاما، ولعلنا نلتقي.

بقلم/ فراس حج محمد