أمام تلك الأسئلة الجوهرية التي طرحناها في أول الكلام حول التركيب الذري وأصل الوجود والأرض والحياة والهبوط على سطح القمر وغيرها من الأسئلة العلمية الجوهرية، تساءلنا ولا زلنا نسأل عن طريق الناس للحصول على المعرفة لتلك الإجابات العلمية؟ وقبل الإجابة، نؤكد التفريق بين طريق العلماء الباحثين للحصول على المعرفة أو توليدها عبر البحث العلمي، كما بينا في المقال السابق حول الطريق إلى المعرفة، وبين طريق الناس لاكتساب تلك المعرفة، أو مصدرهم لتلقي المعرفة، بينما هم لا يمارسون البحث العلمي، مما هو موضوع هذا المقال.
وعندما يجيب أيٌ من الناس على الأسئلة العلمية الجوهرية التي طرحنها في أول الكلام، ويصدّق بالجواب إلى حد اليقين الذي لا يتزحزح، ويتعامل مع تلك الأطروحات العلمية على أنها حقائق راسخة، فهو مؤمن بالعلم إيمانًا راسخًا، وخصوصًا إذا لم يخطر بباله أن يشك بأي من تلك المعارف العلمية. وهنا نسأل كيف تكوّن لديه ذلك الإيمان؟ هل وصل إليه عن غير طريق الرواية؟ تلك الرواية التي يتلقاها عبر الوثائقيات العلمية أو المجلات العلمية المحكمة أو الكتب المدرسية والجامعية!
قد يتبادر لذهن البعض أن البحث العلمي هو طريق المعرفة لتلك الأسئلة العلمية الوجودية، وأن طريق المعرفة العلمية هو التجريب والملاحظة. ولكن هذا الجواب غير دقيق، لئلا نقول غير صحيح؛ إذ إن البحث العلمي هو طريق الإجابة للباحث نفسه، أما بقية الناس ممن يتلقون منه الجواب كنتيجة لبحثه، فليسوا ممن توصلوا لتلك المعرفة عبر البحث العلمي إطلاقًا، بل هم يتسلمون الإجابة من الباحث بعدما ينشرها، ومن ثم تتناقلتها الكتب العلمية والبرامج الوثائقية.
والناس في الغالب لا يختبرون صحة تلك المعلومات عبر إعادة التجربة، أو الملاحظة، كما نفصل أدناه… ولذلك، لا يمكن لغير الباحث أن يدّعي أنه أثبت أيّا من المعارف العلمية التي يحملها عبر المنهج العلمي أو من خلال البحث العلمي وأدواته (مثل التجربة والرصد)، إلا باحثًا آخر يتبعه من خلال إعادة التجربة (reproducibility)، وهذا أمر نادر الحدوث. ولكن الفرد العادي أو الدارس والقارئ يتلقاها ممن وصل إليها (أو ادّعاها)، وممن نقلها عنه في الكتب العلمية والمنهجية، دون أن يستوثق من صحتها.
ومن باب الموضوعية، نودّ أن نُبرز أن ثمة جانبًا من المعرفة العلمية هو قابلٌ للاختبار المباشر من قبل الناس العاديين، عبر الحس المباشر والملاحظة والتجارب البسيطة، مثل أن معدن النحاس يوصل الحرارة والكهرباء وأن الماء يتبخر إذا وصل لحالة الغليان… وفي مثل هذه الحالات يمكن أن نعتبر أن طريق تحصيل تلك المعرفة يتجاوز حد تلقي المعرفة العلمية من أصحابها (عبر الرواية) إلى طريق التحقق منها عبر اختبارها المباشر، وفي هذه الحالات يختلف هذا التلقي المعرفي عن تلقي الرواية.. ولكنه محدود أمام الكم الهائل من المعرفة العلمية، وصعب الممارسة فيما يتعلق بالأسئلة الوجودية التي أثرناها ضمن هذا المسار المعرفي.
وأمّا ما قد يخطر في البال هنا حول التحكيم العلمي للأبحاث قبل نشرها، فهو عملية مراجعة (ذهنية – غيبية) للإجراءات البحثية وللتفسيرات والاستنتاجات للأوراق العلمية، والتأكد من أصالتها وعدم تكرارها، وليس تحققًا من صدق الرواية أو اختبارًا مخبريًا لصحة التجارب ونتائجها.
ولذلك فمما لا شك فيه أن جُل المعلومات العلمية الجوهرية، المتعلقة بالوجود الكوني وأصل الحياة، ليست في متناول آحاد الناس لاختبارها المباشر، وللتحقق من صحتها، حيث أن التجهيزات اللازمة لاختبار تلك المعلومات العلمية والتحقق من صحتها (المدّعاة) ليست في متناول الأفراد، وإنما هي محصورة في الحكومات وفي المؤسسات الضخمة (مثل وكالات الفضاء الدولية).
هذه الاستحالة الواقعية للتحقق من صحة المعلومات العلمية من قبل الناس العاديين تعيدهم حتما إلى طريق تلقي المعرفة (النقلي) عن من ادّعى أنه اختبر صحتها. وكلمة (ادّعى) هنا، ليست من باب التكذيب بكل ما يصدر عن تلك الجهات، وإنما من باب وصف الواقع النقلي لتلك المعلومات العلمية، ولأن التحقق من صحة المعلومة مرهون بصدق الناقل، ومتوقّف على التأكّد من صحة إجراءاته البحثية، وصحة تفسيراته واستنتاجاته المبنية على ملاحظاته، وفي هذه الحالات: ما الفرق بين تلقي المعرفة العلمية وتلقي المعرفة الدينية وتناقل ثقافات الشعوب؟ وكيف يختلف نهج دراسة العلوم (الكونية) عن نهج دراسة الأديان والثقافات الشعبية طالما أن المجالين يستندان في النهاية إلى الرواية النقلية، وطالما يتوجب فيهما على الدارس أن يصدّق الناقل للمعرفة؟
وأمام هذه الحقيقة، يبرز السؤال المفصلي: لماذا ثمة محاولات استعلائية في الأطروحات العلمية عند من يعتبرون أن طريق العلم يأتي في مقابل طريق الرواية النقلية؟ ولماذا يمارس كثيرٌ من المنظّرين حالة من الفوقية على علماء الدين (وثقافات الأمم عموما) من يعتبرون أن الرواية هي طريق المعرفة الدينية فقط؟
وكمثال على ذلك التفريق أو الاستعلاء المعرفي، يقول أحد الكتّاب: تعالوا نتوقف للمقارنة بين ما يقوله العلم، والذي هو نتاج العقل البشري، وبين ما تقوله الروايات الدينية، وعلى الأخص روايتا الديانات الإبراهيمية أو التوحيدية أو السماوية (1)، والشاهد في هذا الاقتباس أن الكاتب يتحدث عن الرواية الدينية أو الثقافية للشعوب، في مقابل المعلومات العلمية التي هي نتاج العقل البشري، وهنا تبرز القضية.
إن مجمل الناس يتلقّون الأطروحات الوجودية-العلمية كراوية ينقلها إليهم العلماء، الذين يضعون نظرياتها، ويدّعون أنهم اختبروا صحتها من خلال التجربة أو الملاحظة. وبالطبع، لا يتمكن الأفراد (ولا الباحثون من خارج تلك الأطر الدولية المسيّجة) من إعادة تلك التجربة أو الملاحظة الكونية (التي تتطلب تجهيزات فلكية ليست في متناولهم)، ولذلك ليس أمامهم إلا التلقي (النقلي) لتلك الروايات العلمية عن نشأة الأرض والكون والحياة، وشكل الأرض، وغيرها من المعارف العلمية التي يستحيل على الإنسان العادي أن يختبر صحتها.
لذلك لا نبالغ إذا قلنا أن الطريق النقلي (أو الرواية) هو مصدر جُل المعرفة البشرية التي تنتشر بين الناس، سواء ما تعلق منها بالعلم أو ما تعلق بالأديان والثقافات، وهي ضمن سياق ما قالوا، وما رووا.
ومن المعروف أن المعرفة الدينية الإسلامية ارتبطت بمعجزة للتحقق من صدق الراوي – صلى الله عليه وسلم – في مجال العقائد، ومن ثم أسست الثقافة الإسلامية علم الرواية، وكوّنت سجّلات التحقق من صدق الرواة في التفاصيل الفرعية (الأحاديث النبوية)، وقد أبدعت الأمة الإسلامية علم الجرح والتعديل للتحقق من صدق الرواة، للمعرفة الدينية.
فأين هو النهج المقابل لعلم الجرج والتعديل في التحقق من الرواية العلمية مثلا لأولئك العلماء الذين ادعوا أنهم هبطوا على سطح القمر؟ ولأولئك العلماء الذين يدعون أنهم ينقلون إلينا صورا للمشاهد الكونية السماوية؟ ولشكل الأرض؟ وما إلى ذلك من معلومات علمية؟
وأما هذه التساؤلات التشكيكية: يصبح من الملّح على العقلاء أن يفكروا بالخروج من جدران ذلك الصندوق العلمي، الذي وُضعنا فيه، وأن يتسألوا عن مصداقية الراوي (العلمي)، وعن صحة روايته العلمية، وعدم الرضى بمنهج التسليم للرواية العلمية التي تدّعي أنها نتاج العلم (الذي لم نختبره) وأنها نتائج العقل البشري (وإن ناقضت أسسه)!
وثمة مثال عملي على نوعية الرواية العلمية وتحدّيها لقدراتنا على اختبارها، وهو هبوط الأمريكان على سطح القمر وعودتهم سالمين غانمين: هل يخطر على بال كثير من العلماء أن يتساءلوا حول صدق الراوي؟ أو أن يتحققوا من صحة تلك الرواية العلمية؟ والأغرب من ذلك أن كثيرًا من العلماء المصدقين بتلك الرواية الأمريكية يرفضون نهج الرواية كطريق معرفي!
وهذا تناقض فكري لدى من يريد من الناس التسليم بكل تفاصيل الرواية العلمية مع أنها ليست قابلة للاختبار، ولم يخضع ناقلها لعلم الجرح والتعديل للتحقق من صدقه وعدالته كراوٍ! بل وحتى عندما يرفض رواتها التعاطي مع طلب التحقق من صدق الرواية، كما في التسجيل المنتشر على (يوتيوب) حول رفض رواد الفضاء الأمريكان التعاطي مع طلب القسم على كتابهم الديني أنهم وطئوا سطح القمر، مما سنعود له في مقال لاحق.
وهنا نجدد التفكير بنهج الإجابة على الأسئلة الوجودية التي أثرناها ضمن هذا المسار، والتي تتعلق بأطروحات غائبة عن إحساسنا المباشر، ونحن لا نتمكن من إخضاعها للتجربة ولا للملاحظة العلمية من قِبلنا، كناس تلقيناها عن غيرنا، فيكون طريقها بالنسبة لنا ضمن نطاق التفكير العلمي؟
وإذا كانت كذلك، ألا يتوجب علينا حينها أن نُخضع إجاباتها العلمية التي يطرحها علماء الطبيعة للتفكير الناقد الذي يميز الحقائق عن الأباطيل. مما نتناوله في المقال اللاحق.
(1) عبد المجيد حمدان، تقاطعات بين الأديان 7 قراءة في روايات خلق الكون، مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي، 2017 / 3 / 24
بروفيسور ماهر الجعبري
أستاذ الهندسة - باحث ومفكر أكاديمي من فلسطين