الإنحدار نحو قيم القرن التاسع عشر

بقلم: مصطفى البرغوثي

شهد القرن العشرون حربين عالميتين لا مثيل لهما في مستوى التدمير والقتل والإجرام، حيث قُتل في الحرب العالمية الأولى حوالي تسعة ملايين إنسان، في حين قُتل في الحرب العالمية الثانية واحد وستون مليون إنسان أو ما كان يعادل 2،5% من مجمل البشر في ذلك الحين، إضافة الى عشرات ملايين الجرحى والمفقودين، وتدمير عشرات آلاف المدن و القرى و البلدات.

كما شهد العالم خلال نفس القرن ثورات شعبية بطولية ضد الإستعمار أدت إلى تحرر واستقلال عدد كبير من الدول، وثورة الحقوق المدنية ضد التمييز العنصري ومن أجل حقوق المرأة، وكان آخر انتصارات القرن الماضي إسقاط نظام الأبارتهايد العنصري في جنوب افريقيا، وفي خضم ذلك النضال دفعت الشعوب حياة الملايين من أبنائها وبناتها كي تتخلص من قيود الإستعمار والاضطهاد.

إحدى  نتائج مجازر الحروب الاستعمارية الجنونية، كان نهوض لجان السلام ضد الحروب، وحركات مساندة النضال ضد الإستعمار و التمييز العنصري، والحركات المطالبة بإقرار مواثيق حقوق الإنسان، مما أدى إلى إقرار المواثيق والقوانين الإنسانية التي تدين وتقاوم العنصرية، وإضطهاد البشر، وخرق حقوق الإنسان الإساسية، وجوهرها الإقرار بأن البشر متساوون في الحقوق بغض النظر عن الجنس، أو العرق، أو الدين، أو الإنتماء.

الثمن الذي دفعته البشرية والشعوب كي تصل إلى هذه الحقوق والقوانين كان باهظا ، ولكنة أدى إلى ترسيخ مبادىء وقواعد في العلاقات الدولية تقيد صراع المصالح الذي يحكم هذه العلاقات. فلم يعد التمييز العنصري مبررا، وصار الإستعمار مستهجنا، و اعتمدت دول عديدة كالدول الاسكندنافية قوانين قاطعة في احترام حقوق الانسان، وحاولت كثير من الدول الكبرى خلال فترة الحرب الباردة، أن تغطي ولو شكليا سياساتها بإدعاء تمسكها بقيم الحرية والديموقراطية والعدالة الإجتماعية، حتى إنتهت الحرب الباردة بإنهيار الإتحاد السوفياتي، ونشوء نظام القطب الواحد، الذي ينازع اليوم في مواجهة بزوغ عصر تعدد الأقطاب.

المعضلة التي تواجه البشرية اليوم، هي الإنهيار المريع للقيم والمبادىء الإنسانية في السياسة الدولية ، وتوقف دول كبيرة وصغيرة عديدة عن إحترام،بل وعن الإعتراف بحقوق الإنسان ومواثيقها وقوانينها، وعودة نظام السيطرة الإستعماري بالقواعد العسكرية، والنفوذ السياسي، والهيمنة الإقتصادية، حتى صار إبتزاز الضعفاء من قبل الأقوياء منهجا، وغدت المصالح العارية الباردة هي المتحكم الوحيد في علاقات الدول، دون تقيد بأي مباديء حتى لو كانت زائفة.

وذلك هو التفسير للوقاحة الفجة في التعامل مع قضايا المهاجرين واللاجئين، وفي نهوض العنصرية المتطرفة، وحتى النازية والفاشية في الولايات المتحدة، وعدد كبير من الدول الأوروبية، وفي عودة أنماط التعصب والتكبر القومي، وفي نشوء أخطر نظام أبارتهايد عنصري في تاريخ البشرية على يد إسرائيل التي تكرس التمييز العنصري على أساس الديانة اليهودية، وكأن التعصب اليهودي الذي أقره الكنيست الإسرائيلي غدا الوجه الآخر لأسوأ مفرزات التعصب الشوفيني، وهي اللاسامية.

وعندما تتفاخر بعض الحكومات بقمعها للحريات وتنكرها لحقوق شعوبها،وبممارستها للديكتاتورية، فإن ذلك يعكس إنحدارا عميقا في القيم، ومؤشرا خطرا للإنفجارات التي ستشهدها بلدان هذه الحكومات، عاجلا أو آجلا.

وعندما تقر سبعة عشر ولاية أميركية قوانين تجبر المدرسين في الجامعات والكليات، والباحثيين، وحتى المحاضرين الخارجيين، على توقيع إقرار بمعارضتهم لحركة مقاطعة العنصرية الإسرائيلية وتعهدهم بعدم الإنضمام لها، فإن ذلك يذكرنا بقوانين المكارثية البائسة التي حطمت حياة ملايين الأميركين، ومنهم كبار المبدعين في ميادين الثقافة، والإعلام، والفن.

وعندما يقدم الكونغرس الأميركي، بناءً على طلب وضغط الحركة الصهيونية واللوبي المناصر لها، على مناقشة قانون يحدد عدد اللاجئين الفلسطينيين الستة ملايين بأربعين ألفا فقط، فإن ذلك يذكرنا بما تعرض له جاليليو في القرن السادس عشر من إضطهاد، لإجباره على التراجع عن إكتشافه العلمي القاطع بأن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس.

وبإستطاعة الكونغرس، بالطبع، أن يقرر أن الشمس تشرق من الغرب، ولكن ذلك لن يجعلها تفعل ذلك، ولن يلغي أي قانون صفة اللجوء عن اللاجئين الفلسطينيين الذين مورس ضدهم التطهير العرقي عام ،1948 باقرار بعض كبار الباحثين و المؤرخين الإسرائيليين.

غير أن أكبر خطايا عصرنا اليوم تكمن أولا في معاملة الدول الصناعية الكبرى للمهاجرين، بهدف تكريس منظومة الرأسمالية المعولمة  القائمة على حرية تنقل الإستثمار، والبضائع، ورأس المال، مع تقييد حرية حركة العمال، بهدف إستغلال عمالتهم الرخيصة في بلدانهم ، وثانيا في تقبل عنصرية إسرائيل اليهودية، والتعامل معها، والصمت على جرائمها ضد الشعب الفلسطيني، بما في ذلك إتهام الشعب الفلسطيني المضطَهد بالإرهاب ، والتغطية على إرهاب الدولة الذي يمارسه الإحتلال، ونظام الإبارتهايد الذي أنشأه.

هناك أزمة عالمية مضمونها الإنحدار نحو قيم القرن التاسع عشر وما قبله ، حيث تسود العلاقات الدولية لغة المصالح الباردة فقط، ومنطق القوة والغطرسة، وهيمنة جبروت المال والجيوش، بوقاحة عديمة الخجل.

لكن ذلك كله كان قائما من قبل، وزال، لإنه يتعارض مع مصالح، وتطلعات، وآمال، وأحلام آلاف الملايين من  البشر، الذين لا يمكن أن يسكتوا على هذا الإنحدار المريع.

 

بقلم د. مصطفى البرغوثي

الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية