منظمة التحرير الفلسطينيه - م ت ف - ماضي ساطع، حاضر مؤلم ومستقبل مجهول!

بقلم: رائف حسين

كثرت في الاونه الاخيرة المقالات والدراسات التي تتنبأ بنهاية منظمة التحرير الفلسطينيه وانطفاء شمعتها التي أضاءت طريق النضال الفلسطيني منذ تأسيسها بعد انعقاد المؤتمر العربي الفلسطيني الاول بالقدس عام 1964.

هذه التنبئات لا تأتي من فراغ، بل هي نتاج استخلاصات ما مرت به م ت ف من عمليات تهميش داخلي وخارجي وحرب ضارسه على مؤسساتها كانت أطراف فلسطينية مختلفه مشاركة بهما وما زالت حتى الان…

في ربع القرن الماضي تعرضت م ت ف لضغوطات خارجيه اجبرت قيادة ألمنظمه على الاعتراف بدولة اسرائيل قبل ان تعترف الاخيرة بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره وإقامة دولته على ما تبقى من فلسطين التاريخية التي احتلتها هذه الدوله عام 1967 وقبل ان تحدد حدودها الجغرافيه وتُعَّرِف من هو شعبها… واستدرجت هذه الضغوطات، العربيه والغربيه، قيادة م ت ف لتغيير الميثاق الوطني الفلسطيني قبل إنهاء الاحتلال وفِي ضَل مشروع ضخم هائل في زيادة الاستيطان الصهيوني في فلسطين المحتله ودون اَي ثمن يذكر من قبل دولة الاحتلال!

في الفترة الزمنية ذاتها زاد تهميش م ت ف ومؤسساتها بتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينيه عام 1994، التي أصبحت في عيون وتصرفات الفصيل المهيمن على هذه السلطة البديل العملي للمنظمة وتداخلت مسؤوليات مؤسسات السلطة الوطنيه بمؤسسات م ت ف ولَم يعد بإمكان المراقب العادي ان يرى الفرق بين السلطة والمنظمة…هذا كان برأيي الإنجاز الأعظم لمهندسي مسار اوسلو الذي ادخل الحالة الفلسطينيه بجميع مكوناتها البشرية والمؤسساتية في صراع بقاء لم ينتهي بعد…

في هذه الفترة ايضاً تشرذمت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية… فتح كبرى الفصائل، وقعت في فخ السلطة والدولة ولَم تستطع ان ترسم لها استراتيجية مسك العصا بالوسط بين كونها حزب السلطة التي تمثل فقط جزء بسيط من أبناء الشعب الفلسطيني والفصيل الأهم في م ت ف التي تمثل عموم الشعب الفلسطيني بكل أماكن تواجده، وأدى هذا الانفصام الى انشقاقات وابعاد في صفوف حركة فتح واضعافها وتحولت من حركة عتيدة متماسكة الى مول سياسي يتكون من دكاكين لرموز الحركة أو كما اسميه ( shop in shop) …

فصائل اليسار الوطني واليسار اللبرالي تحولت من شريك الى تابع ولَم تفلح بالخروج من المأزق الذي وجدت نفسها به بعد تأسيس السلطة الفلسطينيه وأصبحت كتلة تجاذب بين حركة فتح والسلطة وبين تيار الاسلام السياسي بقيادة حماس. وبعد الانقسام السياسي والجغرافي والاجتماعي نتيجة الانقلاب المسلح الذي قامت به حركة حماس في قطاع غزه وتأكل الشرعيه للرئيس محمود عباس وسلطته تفاقمت أزمة اليسار الفلسطيني وأصبح طابه في ملعب الطرفين المهيمنين على الحالة الفلسطينيه.

حركة حماس لعبت دوراً أساسياً في أضعاف م ت ف وتأكل هيبتها بالداخل والخارج…حماس وضعت منذ تأسيسها عام 1988 صوب أعينها احتمالين: اما الاستيلاء على منظمة التحرير واسلمتها بما يتناسق مع أيدلوجيتها الاخوانية، أو إيجاد بديل للمنظمة تقوده هي وينضم لها بعض الفصائل الوطنيه والاسلاميه من خارج ومن داخل م ت ف… كلا الاستراتيجيتان لم يتكللا، رغم محاولات عديدة، حتى الان بالنجاح …حماس تعمل ومنذ سنوات وفق استراتيجية توفيقية جديدة مفادها الإبقاء على السجال حول انضمامها لمنظمة التحرير مفتوحاً مقدمة نفسها "صِمَام أمان لوحدة الصف الفلسطيني ورافعة راية النضال ضد الاحتلال" وبالوقت نفسه تبني حماس في كل أماكن تواجد الشعب الفلسطيني بالعالم مؤسسات واتحادات وجاليات وأطر موازية لتلك التي بنتها م ت ف وفصائلها… حماس لم تُبْقي فقط على تشككها بوحدانيه التمثيل للشعب الفلسطيني الذي احتلته م ت ف منذ تأسيسها وثبتتها بنضال فصائلها العسكري والسياسي على مدار أربعة عقود ونيف، بل انتقلت الى وضع علامة سؤال على شرعية المنظمة وقيادتها للشعب الفلسطيني.

هذا الواقع المؤلم للحالة الفلسطينيه بشكل عام والوضع المزري الذي وصلت اليه م ت ف هو نتاج اخفاق فلسطيني داخلي كامل قبل ان يكون نتيجة حتميه لتغيرات عالميه واقليميه كما قراها البعض…

هذا الواقع ليس تطور جدلي لماضي منظمة التحرير …صحيح بان ماضي م ت ف لم يكن دائماً نبراس للقياده الحكيمة ولا منارة لديمقراطية المؤسسات، لكنه كان ماضي حافل بالنجاحات التراكمية … في الماضي استطاعت م ت ف انتزاع اعتراف عالمي بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني وثبتت قضية فلسطين في المحافل الاقليميه والعالميه وأوصلت القضية الفلسطينيه الى كل بيت في العالم وثبتتها كمفتاح لأي حل مستقبلي في الشرق الاوسط واستطاعت انتزاع حق تمثيل شعب فلسطين من الوصايه العربيه التي تأمرت عليه طويلاً… وأصبح النضال الفلسطيني من اجل حق تقرير المصير محطة الهام لحركات التحرر في جميع أنحاء العالم.

رغم الإخفاقات العديدة التي سجلها تاريخ م ت ف وقيادتها الا ان ماضيها الساطع ونجاحاتها العديدة جعلت منها في عيون ووجدان الشعب الفلسطيني ليس فقط ممثلاً سياسياً شرعياً لا يمكن تجاوزه من احد، بل أصبحت منظمة التحرير الفلسطينيه تمثل عموداً فقرياً اساسياً في الهوية الوطنية الفلسطينيه… وهنا يكمن الخطر عندما يتنبأ البعض عن نهاية م ت ف! وهنا تكمن ايضاً مسؤولية المحافظة على م ت ف وتجديدها برنامجاً وبنيوياً …

مستقبل منظمة التحرير الفلسطينيه التي نعرفها اصبح مجهولاً ولا احد يستطيع بمساعدة ذكريات الماضي وحقائق الواقع ان يقرأ في الفنجان أين سترسي علية مسيرة م ت ف… النداءات التي تطلقها بعض الفصائل الفلسطينيه وبعض الشخصيات الوطنيه والتي نسمعها منذ ربع قرن مطالبة بإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير وإعادة الاعتبار لها، رغم مصداقيتها واهميتها، الا انني أضعها انا شخصياً في خانة الأمنيات وليس في خانة الإمكانيات وذلك للاسباب التاليه:

اولا يفتقد الخطاب الاصلاحي الذي تتبناه وتتداوله كل الفصائل الفلسطينيه الى المصداقيه… ليس من باب القناعه الذاتية عند الفصائل باهمية إصلاح م ت ف ومؤسساتها…انا على قناعة تامة بان جميع الفصائل، اعضاءاً وقيادات، تؤمن باهمية الإصلاح وتطوير المرجعية الفلسطينيه، لكن هذا الايمان لا يتم ترسيخه عبر عمليه اصلاحية تطويرية داخلية في الفصائل لاقناع الجماهير بان نداءات الإصلاح ليست فقط شعارات رنانه، بل برنامج يمكن تحقيقه! جميع الفصائل الفلسطينيه وبدون استثناء تسمح لأعضائها ان "يمارسو لعبة الديمقراطية" لكنها في واقع الحال تعيش حالة دكتاتورية المؤسسين وتَمَسُك اقليه من المعمرين بمراكز القرار بجميع الفصائل الفلسطينيه المنتميه الى منظمة التحرير… ونرى الدكتاتوريه والتمسك بالكرسي في هذه الفصائل رغم إخفاقاتها المتتالية …إخفاقات بالسياسه وإخفاقات بحضور ومكانة الحزب أو الحركة وإخفاقات بالانتخابات البرلمانية والبلدية وبدل ان يتحملوا هؤلاء مسؤولية هذه الإخفاقات ويضعون مصلحة التنظيم فوق مصلحتهم الشخصية تراهم يتشبثون بمواقعهم ويزيدوا من قوة تأثيرهم داخل مؤسسات الحزب عبر المحسوبية والولاء الأعمى لهم من قبل أبناء وبنات التنظيم… فكيف يستطيع هذا القيادي ومعه تنظيمه ان يقنع المواطن العادي انه يطمح بدمقرطة مؤسسات م ت ف وترميمها ان يضع المصلحه الوطنيه فوق المصلحتين التنظيميه والشخصية؟ باختصار أصبحت مصداقيه القيادات الفلسطينيه في فصائل م ت ف عند الجماهير تقارب الصفر.

ثانياً نداءات اعادة الاعتبار لمنظمة التحرير وأعاده بناء مؤسساتها على أسس ديمقراطية وأسس سياسيه جامعه، رغم صداقتها، الا انها نداءات رفع عتب ليس الا كونها لا ترتكز على تقديم برنامج سياسي جديد لمنظمة التحرير يأخذ بعين الاعتبار كل المستجدات التي حصلت بالوطن وبالاقليم وعلى الساحة الدولية.

البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية فقد مفعوله وهنا لا اقصد الثوابت الفلسطينيه والخطوط الحمراء بل البرنامج السياسي الذي يتعاطى مع الواقع الحالي للبشر والحالة السياسيه الجديده بالوطن والإقليم…البرنامج السياسي لم يعد القاسم المشترك العريض لعموم الفصائل الفلسطينيه؛ فنحن الان نرى ان فصائل مهمه اصبح النضال الفلسطيني بأشكاله المختلفة عبئاً عليها وأصبحت ترى في التنسيق الأمني مع الاحتلال ملاذ لها وهنالك فصائل ما زالت تسمي طخطخة فشة الخلق كفاح مسلح ولا تجرىء على رسم استراتيجية جديده لهذا النضال تتماشى مع الوقع الجديد في الوطن… واُخرى نراها تتمسك بالنستالجية الثوريه خوفاً من الإعلان عن افلاسها السياسي والنضالي… وهناك قسم اخر يستعمل استراتيجية التكلم بلسانين أو كما اسميها علمياً inside outside strategy، لنتابع كيف يتكلم ويخاطب هذا الفصيل السياسي الغرب ودولة الاحتلال وكيف يخاطب جماهير الشعب بلغتين مختلفتين خوفاً من يعرى سياسياً كونه لا يملك برنامج سياسي واقعي واضح.

قبل الحديث عن اعادة بناء م ت ف علينا ان نضع الأسس السياسيه لإعادة البناء وان نشتق منها استراتجيات نضال تأخذ بعين الاعتبار المستجدات بالوطن والإقليم وإلا بقيت نداءات التنظيمات الفلسطينيه رفع عتب ليس الا.

الحالة الفلسطينيه تمر الان بمرحلة تكلس قيادي مخلوط بضياع استراتيجي سياسي محاط بتكتيكات نضالية ترسمها غريزة ردة الفعل بدل العمل النضالي المبرمج الدؤوب والمدعوم بإستراتيجيته سياسية واضحة متفق عليها من الأكثرية السياسيه.

منظمة التحرير الفلسطينيه ليست فقط الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بل هي العمود الفقري للهوية الوطنيه الفلسطينيه قبل كل شيء.

 

مقال بصفحة 76

الكاتب والمحلل والباحث السياسي رائف حسين - ‪ المانيا