موهبــة التوصيـف ..!
الوصـّاف هو الطبيـب الماهر ، الذي يعالج الداء الناجم عن الأوبئة للخلاص من الأمراض وفق أحكام علمية دقيقة ومدروسة ضمن سياقات محددة .
لايستطيع أحد أن ينكـر الموهبة الفائقـة التي يتمتع بها فرقاء المشــروع الوطني الفلسطيني في مجال التشخيص وهو أمر يختلف عن وضع الأستراتيجيات الناجحة طالما اقتصر الأمر على ذلك أي الدوران حول التوصيفات دون الإنتقال إلى خطوات وضع المعالجات المطلوبة ، ومن باب الحقائق وليس الإنتقاص من قدرات ورؤية أحد ، فإن ذلك ربما يعود إلى التجربة النضالية والسياسية الطويلة نسبياً لفصائل العمل الوطني ، فضلاً عن تراكم الخبرات والإسترسال الفكري النظري في فن "تجديد البقاء " الحفاظ على الذات واعتباره انتصاراً ، عبر مراحل صعبة واجهتها خلال عملية الصراع الفلسطيني الصهيوني وما شهدته من مؤامرات ذات صلة أدّت إلى تشعبـّات داخلية تزامنت مع تشابك العوامل الخارجية الدولية والعربية وكذا التداعيات التي نجمت عنها ، إذ كان لابد من إيجاد غطاءً قومياً شاملاً بحجم القضية الفلسطينية يبرّر الهروب لهؤلاء الزعماء من استحقاقات استكمال المرحلة التحررية الوطنية والديمقراطية الضرورية للشعوب العربية بشكل عام وللقضية الفلسطينية بشكلٍ خاص ، ما أدى إلى الإنهيارات اللاحقة نتيجة هشاشة ركائز الدولة البنيوية الفاشلة المرتبطة بعبودية الفرد وتغييب دور المؤسسات ، وتبعية ولاءاتها السياسية والإقتصادية للدول الإستعمارية الكبرى .
من هنا نلامس أنعكاس الإجادة الموروثة بالتوصيف في الإطار الوطني أيضاً ، حيث أضحت نهجاً وسلوكاً ممجوجاً يجتّـر نفسه كردّة فعل خلف كل حدثٍ جديد وليست صانعته، من خلال البيانات اللغوية المشابهة للإعلانات الرسمية والدبلوماسية المنتقاة غيرالمجدية تحمل في ثناياها الشجب والإستنكار ثم القلق الذي ينتهي مفعوله فور اعلانه للتعبير عن سياسة بلدانهم من أجل رفع العتب ليس إلا ، بغض النظر عن صبغـة الأفرقاء على مختلف أطيافهم الحزبية والسياسيــة كما يحلو لهم تسميتها يسارية ًكانت ، أو قومية ، أم إسلامية ً، إذ لايمكن لأحد رسم دائرة مغلقة حول الإتجاه الذي يختاره وفق اهوائه دون توّفر الشروط الموضوعية والذاتية لذلك ، خاصةًًًً حين يصطدم بجدار الإخفاق في انجاز مهمّـة التحرر الوطني الديمقراطي قبل كل شيء ، والخلاص من القهر والظلم والإحتلال الذي ينبغي أن يحتّم على الجميع الإنصهار في بوتقةً جبهة عريضة واحدة تحت مظلة الشرعية الوطنية الفلسطينية ، كما لايتناقض ذلك المسعى مع امكانية العمل بالتوازي في تنامي الحالتين معاً تقوده الطليعة الحقيقية المٌحتملة إن وجدت على أرض الواقع من رحم التطور الإقتصادي والإجتماعي التدريجي ، وليس مادةً للتباهي أو التمايز الفصائلي الشكلي على حساب المصلحة الوطنية العليا .
لقد شهدت مرحلة مابعد اتفاق اوسلو التي مضى عليها مايقارب ربع قرن متغيرات دراماتيكية من حيث طبيعة وشكل الصراع ، والإنتقال من الثورة بأدواتها القديمة إلى السلطة بأمانيها الجديدة شابتها عيوب ونواقص تحت عناوين ومضامين يحتاج كل منها إلى معارك سياسية طاحنة أثبتت الوقائع خلالها مدى اتساع الفجـوة بين الأمنيات والتطبيق العملي في ظل اختلال موازين القوى لصالح القوى المعادية بعد مرور تسع عشرعاماً على انتهاء المرحلة الإنتقالية في أيار عام 1999 م القرن الماضي ، وإظهار الأمر كأنه "فخّ منصوب " لتصفية القضية الفلسطينية تحت وعود وهمية من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة الشريكة كلياً لقوى الضغط الصهيوني ومن دار في فلكها ، مثل ملهاة حل الدولتين التي لايعرف أحد أين ستقام على سطح القمر ، أم على الأرض بأقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس بعد الهجمة الإستعمارية الإستيطانية وتشريع القوانين العنصرية مستفيدة من عامل الوقت الذي وفرّته حالة المماطلة والتسويف وضرب المشروع الوطني في مقتل حين نجحت بإحداث حالة الإنقسام وإيجاد قوىجاهزة نقيضة تبدو ظاهريًا راديكالية ولكنها مستعدة لقبول أي شيءٍ فـُتات على انقاض المشروع الوطني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد ، مايؤكد على حقيقة دامغة بأنه وعلى الرغم من القراءة الصحيحة السياسية والعملية لجوهر الصراع من الناحية النظرية أو الفكرية في الماضي والتضحيات الجسام التي قٌدمت على مذبح الحرية إلا أن الخلل ظل يشوب النتائج العملية الكفاحية تارةً بالقفز فوق المراحل دون مراجعة واقعية تستنبط الدروس والعبر وتكريس مبدأ الثواب والعقاب ، بل على العكس من ذلك تمت مكافأة المُقصّرين وتحويل الهزائم إلى انتصارات مبهرة سرعان ما انطفت جذوتها ، وكذا هبوط السقف السياسي المرتفع من تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني ، إلى المرحلية في خضّم الرفض والقبول ، مروراً بمؤتمر مدريد وليس انتهاءاً باتفاق أوسلو وملحقاته تارةً أخرى.
إن الأزمات مهما كانت صغيرة تكبر وتنمو مع مرور الوقت مثلها مثل الحياة نفسها يصيبها الهرم في حال تجاهلها واتباع سياسة الهروب إلى الأمام ، ثم تتحول إلى مأزقٍٍٍ كبير لايمكن الخروج منه بسهولة بمعالجات سطحية إذ تنمو على جوانبه طفيليات سامةً تتداخل مع بعضها البعض وتنهش الأخضر واليابس من الجسد الأصيل بالتالي تتوه الخيارات في دوامة الجزيئيات بينما يكون الإحتظار سيد الموقف ، فهل يكفي أن نتداعى من أجل إعادة انتاج الأزمات وحمل الرسائل الإستخدامية إلى المحافل الدولية أو الإقليمية ، مع التقدير للإنجازات المعنوية والسياسية التي تحققت ولاتقدر بثمن وقول كلمة "لا لصفقة ترامب المشبوهة "رغم كل الضغوطات القريبة والبعيدة والنتائج المترتبة عليها ، لكنها غير قابلة للتطبيق في عصر البلطجة والوقاحة والإبتزاز الترامبي ، بينما يتم تجاهل حقيقة التغـّول الإستعماري عما يجري على أرض الواقع بتشريع قوانين فاشية وعنصرية تجعل كافة الأراضي الفلسطينية ملكاً لغرباء غير أصحابها الأصليين وترجمتها إلى أفعال فورية تتجلى ذروتها في القدس والحرم المقدسي الذي يهدده خطر التقسيم المكاني والزماني في كل لحظة والمسألة أضحت مسألة وقت لاأكثر ، إضافة إلى هدم البيوت ومصادرة الأراضي واستهداف الإنسان الفلسطيني وممتلكاته بشكل لم يسبق له مثيل .
لعّل تدوير القرارات المؤسساتية في كل مرة بين المجلس الوطني الفلسطيني وإعادتها إلى المجلس المركزي كي تذهب الى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وهكذا ، يعكس مؤشرا سلبياً لاتحمد عقباه ، وبالتالي تضيع الأساسيات بين الفروع إلا إذا كان الهدف منها التأجيل يتلوه تأجيل بانتظار شيء ما لا أحد يعرف كنهه أو مداه ، خاصة أن الأمر لايُحتمل عند تعلق الأمر باجراءات الإدارة الأمريكية المتصهينة حتى النخاع نقل سفارتها إلى القدس المحتلة والإعتراف بأنها العاصمة لدولة الإحتلال ضاربة بعرض الحائط كافة القرارات والقوانين والمواثيق والأعراف الدولية ، تبعها خطوات وقف المساعدات لوكالة الغوث الدولية "الأونروا"ومحاولة تقليل أعداددهم إلى مايقارب العشرة بالمائة وبالتالي إزاحة قضية اللأجئين الفلسطينيين الذين شردوا من أراضيهم وديارهم في محاولة بائسة لشطب حق العودة المكفول حسب قرار الأمم المتحدة رقم" 194" والقرارات الأخرى ذات الصلة .
هكذا يبدو المشهد الفلسطيني الراهن المُتخم بالأزمات وفي المقدمة منه حالة الإنقسام البغيض التي لايبدوا انفراجا له يلوح في الأفق طالما أوجده "شارون" لغاية تكريس الإنفصال فهل يمكن مشاهدة عملية قيصرية تنهي الوضع الشاذ وتعيد الأمور إلى سياقاتها الطبيعية بعيداً عن إدمان التوصيف أو التشخيص ...؟
بقلم/ محمدالسودي