طرح برنامج وطني نضالي ضرورة ملحة

بقلم: نداء يونس

منذ لاءات الخرطوم، يبدو السياسي العربي والفلسطيني محكوما بثوابت كلامية تحولت مع الزمن الى خطوط ليس اقلها الخط الأخضر الذي يفصل بين الأراضي المحتلة عام 1948 والأراضي المحتلة عام 1967، او أكبرها الأزرق "خط المستعمرات" الذي أعلنت بموجبه دولة الاحتلال عن اكثر من 750 الف دونم من أراضي الضفة الغربية "أراضي دولة" إستناداً لتفسير محرّف أعطته لقانون الأراضي العثماني، لتمرير استحداث وتطوير المستعمرات، بينما فرضت على الفلسطينيين حظرا تاما يمنعهم من استخدامها. ويبدو ان المشكلة لدينا ليست في لون الخط بل في هندسته ولا في مساره بل فيمن يرسمه أو يحاول ان يستلم الدفة لرسمه وتمريره.

ربما يمكن ان نضيف احدى نظريات المصارعة المعروفة الى علم إدارة الازمات، وهي نظرية الاستنزاف، حيث يتم منح الخصم الفرصة الكافية ليظهر كل ما يعرف من تقنيات وليضرب ويخسر جزءا كبيرا من قوته ثم تنفيذ الهجوم عليه. خلال سبعين عاما، يمكن بسهولة قراءة الخصم الإسرائيلي ومواطن القوة التي برع فيها بل وحصرها في مجالات محددة مثل القانون الدولي والتشريعات البرلمانية العنصرية والاعلام والضغط وصناعة القيادات السياسية في دول العالم من خلال اللوبيات الداعمة والصفقات والاستثمار الإنتاجي وتعزيز الاقتصاد وصولا الى ابرام اتفاقيات اقتصادية بمليارات الدولارات حتى مع دول ترفض الاحتلال الإسرائيلي وتؤيد الحق الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية. ان قراءة اقرب الى بيئة إدارة المؤسسات في دولة الاحتلال تعطي مجالا خصبا لادراك ما تقوم به من تطبيق لمنظومة إدارية تقارب مثيلاتها في دول حديثة النشأة مثل سنغافورة او اقدم قليلا مثل أمريكا، وتتماهى مع أكثر منظومات خلق وإدارة المؤسسات تطورا في دول مثل الصين والتي تقارب تجربتها الثورية تجربة فلسطين مع فارق واضح في النتائج وان لم يكن في النفس الثوري والنضال لانهاء الاحتلال.

بعد سبعين عاما، وهو عمر متوسط في عمر ثورات أخرى ضد الاحتلال مثل ثورة الجزائر والتي دامت لـ 132 عاما، يصبح الحديث عن ضرورة البدء بمرحلة الرد السياسي والنضالي واجبا تكتيكيا ونضاليا وحيث تكشفت عنصرية الاحتلال وممارساته الهمجية التحريضية التي تهدف الى محو الفلسطيني واقتلاعه، تصبح هناك ضرورة وطنية استراتيجية لاعادة هيكلية مؤسسات دولة فلسطين باتجاه وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وحيث تشير احصائيات الجهاز المركزي للإحصاء في اليوم العالمي للشباب الى ان 0.7%  فقط من الشباب يعملون في مناصب عليا وبأن 37% من شباب غزة و15% في الضفة الغربية يرغبون بالهجرة بينما تؤكد الاحصائيات ان 29.2% من الشباب فقراء (بواقع 13.9% في الضفة الغربية و53.0% في قطاع غزة) فيما يرتفع مستوى البطالة الى 41% بشكل عام وبين الخريجين الى 55%، بينما لا تتوافر أية احصائيات حول مواءمة الوظائف الحكومية مع بطاقات الوصف الوظيفي المعتمدة او طبيعة العمل وتخصصات الموكلين به. 

ان توطين الكفاءات والمبدعين واليد العاملة أولوية استراتيجية وطنية ستساهم ليس فقط في بناء اقتصاد وبيئات غير طاردة بل وأيضا في دعم النضال الشعبي على الأرض والذي أصبح ضرورة وطنية لمواجهة التعنت الإسرائيلي تجاه حل الصراع وما تمارسه حكومات الاحتلال المتعاقبة برئاسة نتنياهو مدعومة ببلطجة سياسية من ترامب وخلافا لقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي ندرك بانها غير ملزمة ولقرارات مجلس الامن التي تعرف القيادتين الإسرائيلية والأمريكية مدى الزاميتها ولا تطبقها، وبلا أي اعتبار من جانبهما لاي قرار او تدخل او جهد دولي يؤيد الحق الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة وصولا الى فرض ترامب للعقوبات على العالم بأسره وليس فقط على الفلسطينيين بحرمانهم من المساعدات.

تتعرض القيادة الفلسطينية لاشكال عدة من الابتزازات السياسية واللوجستية والضغط لانهاء القضايا الأساسية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والتي يمكن ان نقسمها الى قضايا الوجود الهوياتي للشعب الفلسطيني وهي القدس واللاجئين وحق العودة والحق بإقامة دولة فلسطينية على التراب الفلسطيني، والقضايا الوجودية اليومية مثل مواجهة حرب الاقتلاع والتهجير في الخان الأحمر او حرب التعطيش والابادة في عين البيضاء وكردلة وبردله او الاسرلة والمحو كما يحدث في القدس والخليل وحتى أصغر مقام لشيخ او احد الاولياء في قرية مثل كفل حارس، وقضية مستحقات عوائل الاسرى وغيرها.

تكتيكيا، الخطوط الحمراء الإضافية الثابتة او التي ننتهجها للوقوف في وجه السياسات الإسرائيلية الرامية الى نسف الوجود الفلسطيني تدفع سلطات الاحتلالَ الى انتهاج سياسة خلق الانشقاقات على الساحة الفلسطينية، الأدوات معروفة، لا تبدأ باستخدام الاعلام من اجل تمرير الاحتلال بروباغاندا الحلول السياسية "المرفوضة فلسطينيا" مثل بروباغاندا حل باراك والتي استخدمت ضد الرئيس الراحل عرفات او بروباغاندا نتياهو في قضية الحلول المقترحة لحل القضية الإنسانية والسياسية لقطاع غزة والتي يرفضها - كما يستمر الاعلام الإسرائيلي بالترويج - الرئيس أبو مازن، أو باستخدام البلطجة السياسية لحلفاء دولة الاحتلال او حتى دعم الانشقاقات الداخلية المتمثلة بالانقسام وذهاب الحكومة الإسرائيلية باتجاه خلق قنوات ليست جديدة بل مكشوفة وبتنسيق على أعلى مستوى لاطلاق مفاوضات جديدة بذقن وعمامة تقبل بنسف الثوابت كلها وتمسح الخطوط الحمراء وتفرغ المحتوى النضالي الفلسطيني من فكرة التمثيل الأوحد للشعب الفلسطيني وتذهب الى تمرير التنازلات عما بقي من الأرض لتمرير مشروع ايالون او "صفعة" القرن او مشروع غيورا ايلاند او سواها، والتي تذكرنا بما قامت به جهات خارجية لخلق انشقاقات على صعيد منظمة التحرير الفلسطينية سابقا مثل انشقاق أبو نضال. يظل هذا الالتفاف الإسرائيلي على القضية وثوابتها مرشحا للنجاح اذا لم يتم وضع وتنفيذ استراتيجيات دعم وصمود ليس فقط للفلسطينيين في أماكن المواجهة والاستهداف بالتهجير، بل ودعم صمود الفلسطيني في وطنه ليكون المكون البشري رصيدا حيا في وجه المحو والتفريغ.

علينا طرح برنامج وطني سياسي نضالي يرتكز الى ثوابتنا الوطنية ويأخذ بعين الاعتبار كافة المتغيرات والتحالفات الخارجية التي يمكن ان تحرك احجار الشطرنج باتجاه تغيير ملامح المشروع الإسرائيلي الذي "يظهر منتصرا" ليس لأحقيته بل لعدم التفاتنا الى قضايا لها علاقة بالتمكين البشري ودعم الصمود من خلال برنامج مقاومة شعبية معلنة تُحمِّل الجميع المسؤولية بالتساوي، وحيث سيتحملون بالتساوي أيضا تبعات فرض مشاريع الحلول البديلة مثل الترانسفير وإعادة التوطين أو النكبة الجديدة او احياء مشروع روابط القرى والذي سيقام هذه المرة في كنتونات جغرافية معزولة بمشاريع العزل العنصري مثل E1 والمستعمرات وبجدار الفصل الذي يحول الفضاء الفلسطيني الى معازل.

يجب أن نبدأ الان مشروع مقاومة متقدم فما زال لدينا مجموعة خيارات تبني دائما على الثوابت وتستند الى تقييم مواطن القوة والضعف للمشروع الإسرائيلي وتستطيع ان تشكل أرضية واضحة لفعل مقاوم يُحمل دولة الاحتلال تبعات احتلالها. من يملك برنامجا يمتلك القوة، والرهان دائما على التنفيذ.

بقلم/ نداء يونس