الجزء الأول- كان المكان ضيقاً ومُعتماً لا يتسع إلا لشخص واحد، نام فيه ليلة كاملة، إنه قبر رفيق دربه، تحسس أجزاءه، أدرك جيداً معنى الوحدة والسكون المُطلق، الموت والفَقدُ.. هكذا عاش مُقيّداً طيلة حياته، أسيراً لفكرة الوطن، طريداً باحثاً عن الحياة، إنه كمال أبو سفّاقة أحد أعضاء كتائب شهداء الأقصى سابقاً، مدير دائرة دعم الصمود في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان. في الخامسة عشرة قبضت يدَه الغَضّة على السلاح مُقاوِماً فودّع طفولته إلى الأبد.. إنه المُرابِط الذي اكتسب سمرته من قضاء خمسة وأربعين يوماً في الخان الأحمر.. "مارداً" تجده في أماكن الصراع؛ يضعُ علماً على جيب للاحتلال، أو يُضرب من قبل الجنود، ويتصارع مع المستوطنين.. كمال كتب وصيته، لكنه الحي الذي ينظر للوطن والثورة على أنها أفكار رومانسية فيكتب:"ليس الوطن أرضاً.. ولكنه الأرض والحق معاً"، فيما يستمر سؤاله الموجع: لماذا استشهد أصدقائي.. ولماذا صرت مقاتلاً!
من القمة إلى القاع.. كرامة!
جاء الطفل الرابع في العائلة بين خمسة فتيان وأربعة فتيات، في السادسة والعشرين من أيار عام 1984 في الكويت، عاش حياة رغيدة، والده عبد اللطيف يعمل مخلصاً في الجمارك، ووالدته فتحية فودة رئيسة قسم التمريض في مشفى الكويت. هجّرتهم حرب الخليج قسراً إلى الوطن الكبير، إلى الحي الشرقي في مسقط رأسهم طولكرم، بيتٌ فارغٌ من مقومات الحياة، لكنه مأوى. كمال واخوته يسألون عن ألعابهم والوسادة الناعمة، فلا جواب، ينظر إلى حليب الرضّع لأخيه الذي يصغره بخمس سنوات، فيرتشفه، لكن فقر المكان فطمهما عن الحليب أيضاً، إنه الطفل المشاكس عموماً والذكي اللمّاح الذي صنع أفكاره بنفسه بعيداً عن محيطه المحافظ والتقليدي، وكان آخر هواياته الطفولية، مشاهدة أفلام الكرتون، أراد أن يقلد احدها ويضع جناحين ليطير من نافذة بيتهم في الطابق الخامس، فإذا به يعيش طائراً في سماء الحرية بقية حياته..
المشي.. سمة عائلية
المشي مشهدٌ تكرر في العائلة فوالدته فتحية فودة اللاجئة في مخيم نور شمس، من قرية قنّير جنوبَ حيفا، قررت أن تتابع الدراسة في زمن يعد التعليم فيه استثناء للنساء، تحدّت عائلتها، وأعمامها المتشددين، لكنها خرجت من عتبة المخيم إلى المدرسة، مشت أكثر من عشرين كيلومتراً لتصل إلى حلمها، استمر التحدي وخرجت إلى رام الله لدراسة التمريض، قال كمال: "أمي دعمت حالها". وتكرر مشهد المشي مع أخيها الشاعر الشهيد علي فودة الذي استشهد أثناء توزيعه لصحيفته "الرصيف" في بيروت. وهاهو كمال دفعه الفقر أيضاً للمشي كثيراً لتوزيع الصحف في سن مبكرة، ودفعه النضال للمشي والركض مطارداً لسنوات.
كمال هو ابن امرأة مدبرة في بيت فقير، فقد كانت الفاصولياء البيضاء والزيت والزعتر هما الأصناف المتوفرة لعائلة من أحد عشر شخصاً طوال عشرين أو ثلاثين يوماً تحت منع التجوال. تبتكر لأطفالها أسباباً لتناول الطعام ذاته؛ الفاصولياء تقوي العضلات، والزعتر يجعلك ذكياً... أراد أن يكبر.. وقد كبر كثيراً وقبل أن ينطلق شاربه.
جمع أحلام المعتقلين.. هواية!
أجمل ألعابه هي "جيش وعرب"، كمال من العرب فيتقمص الدور لأبعد حد فيوسع أصدقاءه بِدور الجيش ضرباً وغضباً حقيقياً، وما أن يُمسكوا به حتى يردوا له الصاع صاعين. إنه المشاغب الذي يُقحم نفسه في مشاكل الغير دفاعاً عن الحق فهو "أبو العريف" وحامي الديار كما تقول اخته رجاء حتى لو أدى الأمر لفصله من المدرسة لأيام. أما هوايته هو وحسام الهمشري ومهدي الطمبوز فكانت مع أواخر الانتفاضة الأولى؛ انتظار مرور باص المعتقلين، وما أن يصل حتى يُلقي المعتقلين رسائلَهُم إلى أحبابهم وأهلهم، يلتقطها الثلاثة، يضمها إلى صدره الصغير ويركضون جميعاً لتسليمها، حقيبة المدرسة أيضاً كانت مكاناً لاخفاء بيانات الانتفاضة وكاسيتات أغاني الثورة لأبي عرب، وفي أحد الكتب يختبيء علم فلسطين، تهمة عقابها السجن ثلاث سنوات في سجون الاحتلال. وكان مسرحهم المفضل والدائم هو الشارع الرئيسي عند المقاطعة في طولكرم حيث يمر الجيش... هنا تعلموا إلقاء الحجارة.
البؤساء/ النبلاء الثلاثة!
كمال وحسام ومهدي؛ ثلاثة جمعهم الفقر والجوع وفرّقهم الموت، يخرجون من بيوتهم البسيطة في الحارة الشرقية في طولكرم، ليس في حقيبتهم طعام، ولا في جيوبهم المهترئة مصروف، اتحدوا لسد جوعهم فنصبوا حاجزاً عند بوابة المدرسة، وانتزعوا ساندويشات زملائهم الذين يتمتعون بوضع مادي جيد، تاركين لهم المصروف فقط. يوزع الثلاثة الغنائم على كل فقراء الصف، ثم يأكلون. هكذا بدأت حكاية النبلاء الثلاثة، يصنعون من الفقر عدالة بلا وعي منهم، ومع الوقت كَبُرَالمطلب بعدالة تُدفّيءُ سماء الوطن السليب.
ذو الرداء الأحمر
في أواخر الانتفاضة الأولى ومنع التجوال، عاش كمال في بيئة تعليمية مضطربة، أضيف لها الفقر، فاضطر للعمل منذ سن العاشرة، يستيقظ في الخامسة صباحاً، تكون صحف كل العرب والقدس قد وصلت، يوزّعها، ويَصِلُ مدرستَه مُنهكاً، مقابل خمسة شواكل يسلّمها لوالدته يومياً، بل وضاعف عمل فاتجه لبيع الخُضار، كي تحصل أخواته البنات على مصروف في المدرسة. لا يذكر أنه ابتاع شيئاً لنفسه من أجره اليومي. ومع هذا الشقاء كان يجد الوقت لضرب الجنود بالحجارة، حتى من داخل أسوار المدرسة، طاردوه باحثين عن طفل بقميص أحمر، وقرروا اغلاقها لأيام. لم يكترث أو يندم، قد لا تخدش حجارته عدواً مدججاً، لكنها ثورته الداخلية التي بدأت مبكراً؛ يُغلق وأترابه الشوارع بحاوية القمامة الكبيرة، أحدهم يُحضِرُ الاطارات، آخرون يضرمون النار فيها..
العائلة تواجه الاعتقال..
والدته؛ في صوتها خوفٌ ورجاء وقلق كل أمهات الكون. والده؛ في كلماته رعب اللحظات القادمة، حاولا ثنيه عن مسيرة اخوته الثلاثة الذين عاشوا بين مطارد ومعتقل لكنه حمل السلاح شبلاً، أودع ابنه بين يدي الله كما يردد دائماً، وتابعه عبر الفيسبوك على خطوط المواجهة؛ كمال بين كومة مستوطنين، يرفع صوته وابهامه في وجوجههم متحدياً بأنفه الجنود المدججين. عائلة أبو سفاقة واجهت الفقر وحملت راية الوطن، فكان منزلهم الأكثر مداهمة من الاحتلال، يُقلَّبُه كأنه يبحث عن ابرة بين القش، فلا الابرة وُجِدت ولا القشُّ بقي، ثم يبدأ مسلسل ترتيب أجزاء المكان، وأخيراً وضع الوسادة على سرائر فارغة، لأشخاص اختاروا الوطن سريرهم، تصل الأخوات الأربعة من أجل لملمة أجزاء البيت، بينهم رجاء الأخت والأم الثانية والحاضرة دوماً مقدمة الدعم والاسناد الكبيرين، بينها وبين كمال صداقة لا توازيها أخرى، الصَدوقة التي تلتقي مع أخيها بالفكر والاحساس وجولات لا تنتهي من الضحك.
احتجاز.. الشمس
كان للضوء الذي تمنحه والدة كمال للعائلة قوة الشمس، وكان اعتقالها وهي التي أنجبت أربعة أسود طريقة للضغط على كمال ليسلم نفسه، تعود من التجربة في سيارة اسعاف لارتفاع ضغطها، يتلقى كمال الخبر كالصاعقة، ينجح بالاتصال بها، فيأتي صوتها مشعاً أكثر. تقول له: كله فداكم تخافوش انتوا رجال. وتضيف: "يريدكم الجيش تسلم حالك.. لكن نهاية هاي الطريق إما السجن أو القبر فانتظرهما بشرف". كلمات أمدت كمال والعائلة بقوة للاستمرار "مليون سنة". اليوم تشاهده والدته عبر التلفاز، هؤلاء عشرة مستوطنين يوسعونه ضرباً، تود القفز إليهم، تقول: "الحمد لله، أنا فخورة به". كلمات تتراوح بين القوة والضعف.
شهيدٌ... ابن حياة
في عام 2000 يبدو أنه كُتِب للثلاثي مهدي وحسام وكمال مرحلة جديدة، بعد أن احترفوا الحجارة، وعند إحدى خطوط المواجهة مع الاحتلال، اختارت رصاصة رأس حسام. في المشفى، قالوا إنه استشهد، لحقوا بصديقهم، شاهدوه مُسجّى شهيداً وفي يده يقبض على حجر، أحدهم صرخ بأنه حي ونُقِلَ إلى مشفى اسرائيلي، كمال ينظر إلى مشهد عائلة صديقه المؤلم في المشفى ويقول في نفسه: إنه ابن حياة. لكنه استشهد بعد أسبوع. بدأ الفَقدُ مبكراً لدى الثنائي وهما لما يُتمما السادسة عشر، كمال ومهدي يريدان أن يقدما شيئاً لحسام؛ يشعلان الاطارات ويغلقان الشارع في وجه الاحتلال ورمي الحجارة كلها أصبحت اهداء إلى روح حسام، ظلّلَت صورة حسام نضالاتهما القادمة، وملأت الحارة الشرقية، ومع ازدياد عدد الشهداء اختفت صوره تدريجياً لكنها التصقت في قلبَي اليافعين.
المقاتلان الصغيران..
مهدي وكمال جاهزان عسكرياً بعد عام على انتفاضة الأقصى التي بدأت تأخذ شكلاً مسلحاً، وعبر اخوته المناضلين الأكبر منه انخرط الثنائي في دورة عسكرية وتَعلّموا القيادة بعد درس نظري يتيم في أساسيات القيادة، وخاضا وحدهما دروسَهم العملية، جابوا محيط طولكرم، ارتطموا هنا وهناك، هما ليسا طائشين أو متسكعين، إنهما المقاتلان الصغيران. حمل كمال سلاحاً مصرياً قديماً اسمه "كارلو" أو "بورسعيد"، في الوقت الذي أسس فيه الشهيد د. ثابت ثابت جناحاً عسكرياً لحركة فتح في طولكرم اسمه "التنظيم"، ثم تشكلت مجموعة الشهيد رائد الكرمي، وسُميت كتائب الشهيد ثابت ثابت، ازداد عدد الشهداء فأصبحت كتائب شهداء الأقصى وأصبحت انتفاضة شهداء الأقصى. عاش كمال وانطلق من "مدينة الرد السريع" وهي طولكرم نسبة إلى الشهيد الكرمي الأسرع في الثأر للشهداء وعملياته النوعية.
مقاتلان.. يجهلان الدبابة!
عام 2002 حوصر الرئيس ياسر عرفات في مقره، ووحاولت اسرائيل القضاء على الانتفاضة عبر عملية الدرع الواقي، فعملية "نبش القبور" بحثاً عن المطلوبين، وفي خضم هذا كمال ومهدي يتصديان لاجتياح مدينتهم. وفي ذروة وحشتهم واختبائهم في أحد البيوت المهجورة، لا يستطيعان رفع رؤسهما لاستراق النظر من فوهة جدار، تتقاذفهما الريح في منزل بلا نوافذ، حاولا تخيُّل شكل دبابة الميركافا، ولضخامتها استطاعا رؤيتها تمر من الشارع، دون حاجة للوقوف، فقال كمال لصديقه متفاجأً: هاي دبابة! أجاب مهدي بدهشة أكبر: هاي دار وماشية! وهكذا مضت اثنتا عشر يوماً في الاجتياح، يصلهم السلاح والأوامر كذلك، طُلب منهم التحصن مع المقاتلين في مخيم طولكرم، ولأول مرة يرفضُ كمال ومهدي أمراً تنظيمياً عسكرياً، فمن سيدافع عن المدينة؟ وعاشت الضفة آنذاك مواجهتان شرستان في طولكرم وجنين.
محاولات الاغتيال
بقي مهدي وكمال لا يستوعبان فكرة أن اسرائيل تريد اغتيالهما، لكنها الحقيقة. كمال هو الشكاك الذي أنقذ حياته وصديقه من عدة محاولات، كان الاستهداف الأول لمهدي والذي كان بمرحلة متقدمة عسكرياً وجرأته لا مثيل لها. في إحدى المحاولات؛ كمال يقرأ الجريدة ومهدي يشرب الشاي في صالون حلاقة، وصل باص أبيض صغير، فوقه حقائب سفر، نوافذه مغلقة وتعلوها ستائر، تسلل الشك إلى كمال، نهض ووقف أمام الباص وطلب من مهدي الخروج، مانع كالعادة ثم لحق به، وإذا بقوات خاصة تخرج من الباص نحو الصالون، فشلت المهمة، لأن المعلومة لدى الاحتلال هي أن المطلوبين في صالون حلاقة الواقع مقابل صيدلية وفي الشارع عدة صالونات وعدة صيدليات. في مرة أخرى جاءت المحاولة بسيارة خضار، شك كمال بلهجة البائع، تشاجر مع مهدي كالعادة فاطلق رصاصة في الهواء كاختبار، تبين أنها وحدة اغتيال، نجحا بالهرب بفضل دعم أهل الحارة، فهذه امرأة تدله على أماكن السلالم وآخر يفتح لهما باب السطح..
الجوع في أدبيات مقاتل
حط كمال على سطح أحد منازل الحي، إنه المطارد الجائع، إلا أنه لم يجد لدى المنزل كسرة خبز، العائلة التي يعرفها لم تأكل منذ يومين في ظل منع التجوال. كانت حالة العائلة عبئاً منهكاً لجسد المقاتل، حارته تجوع! أجبر التجار على فتح الدكاكين وترك الباب موارباً، وبدأت مهمة مساعدة الناس للوصول إليها. اضطر كمال أيضاً إلى كسر أحد المخازن التي امتلأت بتموين وصل من فلسطينيي الداخل، بعد أن رفض مسؤول المخازن توزيعها بحجة حظر التجوال، ورفض السماح للمقاومين بالتوزيع. شاهد كمال ومهدي المؤونة وما تتضمنه من حليب لأطفال جاعت، ففتحا المخزن عنوة، وإذا بمشهد الناس الجوعى يملأ المكان ويكسر حظر التجوال لعدة أيام.
وداعاً مهدي!
من على احدى أسطح المباني في طولكرم حيث اعتاد القفز مع رفيق دربه مهدي الطمبوز مطاردين من جنود الاحتلال، شاهد احتفالات المستوطنين باغتيال صديقه بعد أحد عشرة محاولة كما أعلنت اسرائيل في صحفها، نظر إلى البعيد، ابتسم لأنه استطاع تقريب المسافة بين صديقه ومن أحب، كان ينتظرها في إحدى الأزقة، اعتقد كمال وقتها أنهما في مهمة للبحث عن مشبوه، واذا بها فتاة خطفت قلب رفيقه الجريء في النضال والخجول في الحب، حوّل كمال نظرات الاعجاب وساعات الانتظار إلى حقيقة. الآن يسترجع كمال النصف ساعة الأخيرة قبل الاغتيال؛ كانا يتشاجران، كمال لا يريد مهدي الذهاب للحصول على السلاح من خارج الحارة، دون جدوى! وكانت النصيحة الأخيرة: التكتم قدر الامكان. ثم غادرمهدي. لم يكد يمر وقت قصير حتى أعلن عن استشهاد ستة في 25 تموز 2004 بينهم مهدي، في مشهد لا تحتمله لوحة أو كتاب، سرعان ما اتصل كمال بصديقه ليتأكد، فإذا بصوت القائد العام للمنطقة بعربية ثقيلة يرد محاولاً معرفة مكان كمال ليتابع انجاز مهمته في الاغتيال، كشفه كمال، عندها أكد له الضابط أنه سينال منه. فأجابه: بيننا رصاصة.
ذهب إلى مكان الاغتيال، شاهد آثار المجزرة، ودماء صديقه المتناثرة، عرف أن مهدي كاد ينجو لكنه عاد لينقذ أصدقاءه فاشتبك مع الجنود، بحث قائد المنطقة بين جثث الشهداء عنه فلم يجده، عرف أن مهدي هو المقاتل الأخير الذي يناورهم، استمرت المعركة، أصابوه في ساقه، فوقع، حاول الجنود التأكد من هويته، أصر أن اسمه محمد وأصروا أنه مهدي، وبعد عدة رصاصات اعترف. حمل الجندي سلاحه وألصق فوهته في عين مهدي وفجر رأسه، وأمطره جنود آخرين بالرصاص، ثم داسوا بعجلات جيبات المهمة العسكرية جسد مهدي.
غطّت عيون كمال سحابة دموع ماتزال ثقيلة بعد أربعة عشر عاماً على الاغتيال، قبل قليل كانا معاً، لم يستطع انقاذه هذه المرة، ومع غياب مهدي وحسام فقدَ كمال الأصدقاء من جيله.
كمال يتفقد القبر
ذهب كمال إلى مشفى الزكاة حيث كان الشهداء الستة، وبدأ يحدثني عن الوداع في عشرين دقيقة أخرى، صمت أكبر من الكلام يدق جدراناً صخرية متراكمة من ملح صلب، نظر إلى صديق العمر جامعاً ماضيهما بين عيونه، والمستقبل الذي كان من الممكن أن يكون، أقبل عليه، هذه يداه وساقاه وقد أصبحت عظامها فُتات، دقق في آثار اطارات الجيبات العسكرية على الجسد المُسجّى، وفي الرصاص الذي شوه الجسد، تفحص عينه التي فقدها، وبدأ بإصلاح رأسه الذي تفجرت أجزاء منه، لملم كمال بيديه بقايا الذاكرة من كتل دموية، تلمس أوقاتهما معاً للمرة الأخيرة، مشاهد الضحك والحب والمشي والشجار ومحاولات الموت، حاول أن يرمم الذاكرة كي ترحل معه مرتبة جميلة، ابتسم باكياً لأنهما استطاعا أن ينسجا بعض الفرح رغم قسوة الحياة، ابتسم دامياً لأنه أجل مؤقتاً "موته المُشتهى". جاب أهالي طولكرم بجثامين الشهداء الستة ليلاً ثم اعادوهم إلى الثلاجات، سيكون الدفن في اليوم التالي، لكن في الطريق أوقفهم كمال وحمل صديقه إلى حضنه وأخبرهم أنه سينام معه الليلة، بدت الفكرة مجنونة، لكن مهدي كان مايزال حيا بنظره، يشعر بحرارة دماءه كما لو كانا يسيران معاً في الأزقة يبحثان عن ملجأ، الاثنان كانا لبعضهما بمثابة العائلة التي فُقِدت منهما، وأضاع دفئها الاحتلال.
حُفِرت القبور ليلاً، يعرف كمال وصية مهدي في أن يُدفن إلى جانب الشهيد فايز الجابر، رحل الجميع، وبقي كمال، استقر في قبر صديقه، ليطمئن على دفء التراب، تلمس حبيباته لتكون ناعمة على جسد مهدي المنهك، مسّد بيديه مساحة مكان الرأس، نام في القبر مُتيقظاً، حاول الاطمئنان إلى المخدع الأخير، ولم يطمئن. ترك كمال رائحته في المكان وفي الصباح ذهب إلى الجنازة. رغم بشاعة الاغتيال إلا أن الذكريات الجميلة بينهما أقوى حضوراً، مهدي كان يحلم بزوجة وعائلة لكنه رحل. كمال مثل مهدي لم يتزوج حتى الآن، وهو الملقب بأبي فراس نسبة إلى أحد الشهداء!
____________________
في الجزء القادم: حكاية حب ولد في الخاصرة، وشهداء آخرين في الطريق بحثوا عن حياة، وملامح حل لملف المطاردين، قال عنه الوزير وليد عساف: كمال أحد فرسان هيئة مقاومة الجدار والاستيطان وأعمدتها التأسيسية، وقال عنه عوض مسحل الأكاديمي والأسير المحرر: كمال هو المناضل الحي المرهف العنيد..
بقلم/ بثينة حمدان