كمال أبو سفاقة.. الخوّاص! (2)

بقلم: بثينة حمدان

الجزء الثاني- الخوّاص هو شخص من عِليَةِ القوم، كمال منهم فكراً ووطنية نقرأها في ثنايا رحلاته بين أجنحة الوطن المتكسرة في نص يكتبه هنا أو هناك رغم الانشغال بين مناطق الاحتكاك، من عِليَتِهم في نضاله المتواصل، لا يَكِلُّ من المخاطرة التي تُظلِّلُ تاريخه، في بحث دؤوب عن الحياة، كيف لا وهو معروف بصوته الضاحك بلا منافس في السجن وخارجه. تعرض لاصابات كثيرة، أحدَثُها رصاصةٌ مطاطية قرب العمود الفقري أثناء تواجده في بلدة رأس كركر، ورغم آلامه استيقظ في اليوم التالي ملبياً نداء الجمعة لدعم صمود أهلها ضد مصادرة أراضيهم وهجمات المستوطنين.. إنه البسيط والمثقف، المنفتح والانطوائي، يعشق الحلويات ويخاف من السُكّريات، إنه كمال "الخوّاص" أي بائع سَعَف النخيل وهي الأجزاء النامية والحية في الشجرة كما في مسيرته والتي صنع منها مراكب للنجاة. وإنها سَعَف النخيل ذاتها التي تعالج أثار السكر كما هو معروف.. فلا تخاف يا كمال!

حياةٌ.. في الخزان!

في 2003 بينما يختبيء كمال في إحدى البيوت المهجورة، وقفت سيارتان متشابهتان في المكان، شك كمال واتبع نظريته: "ابدأ أنت"، أطلق رصاصةً في الهواء، فانهمرالرصاص عليه كالمطر، فيما كانت أحلامه تكبر كالوطن الذي لا يضيق بأهله. أطلق رصاصه من عدة زوايا في البيت ليوهم الوحدات الخاصة الاسرائيلية أن الاشتباك مع مجموعة وليس فرد، وهكذا أهدروا مئات الرصاصات. هرب كمال وبدأت حملة لتمشيط المنطقة وتفريغ المباني المحيطة من سكانها، وصل كمال أحد بيوتها وأثناء خروج اصحابها مع سكان المبنى تحت أوامر الجيش بالاخلاء، قال له أحدهم: ابقى هنا، اذا هربت سنُقتل! فكان من زوجته أن قالت: اذا اعترفت بوجوده سأبلّغ الكتائب عنك! حاول كمال تهدأتهم، وصعد بعد مغادرتهم إلى السطح، واختبأ في خزان للمياه، تاركاً فتحة شحيحة ليتنفس ويستمع لمن حوله. بعد ساعات فشل الجيش في مهمته وبدأ السكان بفضول كبير يبحثون عن  مخبأه. اطمأن المارد الأسمر وخرج حياً.. صفقت له عيونهم ثم ودّعهم متمنياً لهم هو السلامة!

ختيارة على عرش الوطن

استمر اجتياح الضفة وطورِدَ كمال مع عدد من المقاومين خمسة وثلاثين يوماً قضوها في الجبال عام 2004، كان موسم القطاف، واذا بكيس تعلّق على غصن شجرة مليء بالطعام مع زيتون وزيت وخبز الطابون، تكرر الأمر وأضيف ابريق الشاي، قرر كمال مراقبة المكان، فإذا بحاجّة سبعينية على عكاز وابنها يضعان الطعام، سألها لمن تضعه، فاجابته: "إلكم انتوا الملاحقين". عرفت الحاجة بوجودهم بعد أن ألقى الجيش القنابل المضيئة، أدركت أن مطاردين جدد وصلوا المكان الذي استقبل غيرهم سابقاً. قدمت لهم خطة للهروب فقالت: "لا تهربوا من شرقا لأنها قريبة من نقطة جيش، أما غربا فكلها سلسلة جبال لا يصلها الجيش إلا بالطيارة". وأضافت: "ناموا تحت هاي الشجرة، هون فيه مغارة مستحيل يوصلها الجيش". كسرت بعصاها بعض الأغصان ودلتهم على المغارة. وبحسها الأمني منعت ابنها من اللحاق بها. تركت المرأة أثراً بالغاً في قلب كمال فـ"الحق في الأرض هو لهذه المرأة ليس لغيرها".

الملامح البرّية... حتى الهاتف!

في الجبال أصبح كمال برّياً في ملامحه وتفاصيل حياته اليومية؛ عاشوا حياة قاسية، عند النوم ينظف كل واحد منهم التراب من حوله، أو يبحث عن صخرة ملساء لتكون سريراً، ثم عن قنينة بلاستيكية لتصبح وسادة، لا خيار سوى أن يصاحب كمال "الطبيعة بطريقة خرافية، ينصهر معها كي تستطيع النوم". هؤلاء المطاردون أشخاص عاديون، يفكرون بكل الحيوانات المفترسة والزواحف والحشرات التي قد تكون في المكان. لكنهم لا يخافون في الوطن، بل يخافون عليه، وهكذا تصبح الحيوانات مجرّد صورة، لا تثنيهم عن شيء. ما يشغلهم أيضاً انجاز اتصال ما يصلهم بالواقع، عندها عليك أن تجمع أجزاء الهاتف النقال؛ هنا البطارية، وهناك الشريحة، وفي البعيد الجهاز، وعندما تنتهي، تعيد بعثرة مكونات الهاتف، كما هي أفكار المطارد؛ بين التفكير بالعائلة، وملامح الحياة، والوطن. تناوب المطاردون لاحضار الطعام والأخبار من المدينة، وسؤال يلح عليهم: إلى متى نبقى مطاردين؟

.. أسبوع الآلام

بعد عشرين يوماً في الجبال، عرف كمال عن محاولة الجيش اعتقال الفدائي محمد رداد الملقب بالنمس والذي استشهد لاحقاً، هو ليس من طولكرم ويحتاج إلى مساعدة، ذهب وأحد الشباب لانقاذه، بحث في المكان الذي هاجمه فيه الجيش. نادى بصوت خافت: أنا كمال.. أنا كمال. فإذا بمحمد بجسده المتكسر اثر سقوطه من الطابق الخامس هرباً، حي و يختبيء تحت لوح من الزينكو منذ خمس ساعات. حمله واستقل سيارة من الطريق بعد اقناع مالكها، صرخ محمد من آلام الكسور التي استيقظت بعد كل هذا الوقت وهو في انتظار منقذ أو مارد يكتشفه، انطلقا لكن لسوء الحظ اعترضتهم مدرعة فارتبك السائق وتوقفت السيارة، اضطر كمال للهرب بصديقه، مشى به فيما كانت الكسور ترتطم مع ايقاع الحركة لينفجر ألماً، أخذه إلى الحارة الشرقية، وتنقل به من بيت إلى آخر، يستلقي قليلاً ويتناول المُسكنات بلا جدوى، صوته يصدَح، وصلوا به إلى منطقة عزبة الجرار ضواحي المدينة، نجحوا باحضار سيارة، وأخذه إلى منزل عائلة يعرفها كمال في إحدى الجبال، حمله بين جبلين فكان لصراخ محمد من الألم صدىً رهيب.. كانت صينية من الكفتة بانتظارهم، جاءت بعد وقت مُقفِر مُوحِش، ليس فيه أي رائحة لطعام مطهو أصلاً منذ زمن سحيق.

وصل الطبيب، منح المصاب الراحة أخيراً بواسطة عدد من الحقن، لكنه طلب صورَ أشعة ليتمكن من التشخيص، وهكذا بدأت مهمة جديدة لنقل المصاب إلى مشفى طولكرم ليلاً وبسرية تامة، هناك اتضح أنه يعاني من شُعُر في العمود الفقري وكسرِ في الفخذ ورضوض كثيرة، يحتاج إلى جبص وراحة وعلاجٌ طويل وتغذية سليمة من بيض وحليب. بدأوا البحث عن مكان آمن، إلى أن رضخوا لمطلب محمد بإرساله إلى بلدته صيدا في جنين. يحتاج النقل إلى سيارتين واحدة للمصاب وأخرى تقوم بدور الكاشف للطريق. وشاء القدر أن يعترضهم حاجز طيار بعد مرور الكاشف. توقف الجميع وبترقب وقلق شديدين قال محمد: اذا اكتشفونا اتركوني أطلق النار وأواجه الجيش. اسكتهم كمال، وترجل من السيارة واتجه إلى الجندي، حاوره طالباً السماح له بالمرور لنقل المريض إلى مشفى جنين بحجة صورة طبقية غير متوفرة في طولكرم، سأل الجندي الضابط المسؤول، ثم سمح لهم بالمرور دون أن يسأل حتى عن هوياتهم... وهكذا كُتِب لهم النجاة بأعجوبة..

غريب في الخوّاص

مع حصار الرئيس الشهيد عرفات قررت كتائب شهداء الأقصى أن ينضم كمال للمقاتلين في رام الله، وفي إحدى المرات اثناء تنقله بين رام الله وطولكرم، بموكب من سيارتين متشابهتين قرب بلدة بيت ريما، واذا بالجيش يهاجم السيارة التي أمامه، مما دفعه للهرب لكنه الغريب الذي لا يعرف المنطقة، أوقف أحدهم يسأل عن قرية دير غسانة، واذا بالرجل يكشفه بأن المطارد الغريب، حاول كمال الانكار لكنه كان على مفترق البلدة التي يسأل عنها، إنه الغريب المطارد! اصطحبه الرجل إلى منطقة أثرية جميلة اختبأ فيها اسمها الخوّاص، هي متنزه ومتنفس للناس ومقام لأحد الأولياء، قدم له الطعام وتركه فيها، لم يعتد كمال التنزه أو التنفس إلا عنوةً، الخوّاص أيضاً رواية عن عاشق الأرض لحافظ البرغوثي ابن المكان. عاشت بيت ريما ليلة من منع التجوال والتفتيش والتحقيق مع المواطنين بحثاً عن كمال الذي كان قد رتب أمر خروجه. هو لا يعرف عدد محاولات اغتياله واعتقاله، هناك اشارات تدله على ذلك واعترافات بعض نتائج التحقيق مع مشبوهين.

حُب.. في الخاصرة

في 2005 كان كمال يجهل اللقاءات الاجتماعية، لا يعرف شيئاً عن الجنس الآخر ولم تمر به فكرة الزواج حتى، رجلٌ لا يملك حياته، وأثناء إحدى الاشتباكات، أصيب بشظية في الخاصرة، نزف كثيراً، قفز إلى أقرب حديقة منزل، اختبأ بين الشجر كاظماً ألمه وحركته، فيما الجيش في المنطقة، يُدخن سيجارة في ذيل أخرى، ويضغط على الوجع، وبعد منتصف الليل وإذا بفتاة تفتح النافذة وتسأل: مَن هُنا! عرّف بنفسه وأخبرها بإصابته، أرادت إيقاظ أهلِها لمساعدَتِه، رفض طالباً منها الماء وبعض البن الناشف لوقف النزيف. ناولته ما طلب وبعض المسكنات عبر النافذة. وفي الصباح كان الجيش قد انسحب فأيقظت أخيها وجاءا للاطمئنان عليه، حاولا عرضَ المساعدة  لنقله إلى حيثُ يريد واستضافته في المنزل، أصرّت الفتاة على تقديم المساعدة بجرأة اضافية، بدت قوية وجدعة. لكنه غادر وبدأت هي البحث عنه، عرف كمال عبر أحد الشباب الذي جاء ليحذره أمنياً من الأمر، فطمأنه أنه يعرف العائلة. استمرت بالسؤالِ عنه، تابع تحرّكاتِها، وعرف طريقها، كان يراها دون أن تعرف، إلى أن حصل اللقاء؛ أوقف السيارة التي كانت تُقِلّها إلى جامعة بيرزيت، وسارا معاً في الشارع، بكت الفتاة فجأة فأكد لها كمال أنه لم يخطفها! لقد بكت فرحأً، فذاكرتها لم تنسى مشهد لقائهما الأول، واعترفت له بحُبها وحُلُمِها الارتباطَ بفدائي. رفض كمال بمصيره المجهول، وبداخله كان يتوق إلى نسمة فرح بعد كل هذه الطريق الموحلة. تشبثت بالمجهول وبدأت تتكرر اللقاءات، ومع بزوغِ أخبار عن احتمال حلّ ملف المطاردين ذهب وطلب يدها. لكن والدها رفض وشكره على صراحته. وهنا جاء دور الفتاة برفض موقِفِ أهلها وخوض معارك كثيرة دون جدوى، حاولت أن تقنعه بالهروب والزواج، لكن المقاتل لا يستطيع، خذلان العالئلة التي أسعفته.

كان الحب لحظة الفرح الحقيقة التي اقتحمت كمال، لكنه حب وَلِدَ في الخاصرة، وانتهت القصة باعتقالِه، واحتجاز حبيبته في البيت ثم اجبرتها عائلتها على السفر، وضاعت الطريقُ بينَهما.

عرفات.. وأول سرير!

في عام 2002 أصبح يحصل على مخصص شهري كعضو في كتائب شهداء الأقصى، ومع ذلك لا يملك سوى ملابسه التي يرتديها وبعضَ النقود، مسافرٌ بلا حقيبة، يُخفي هنا وهناك بعض القهوة والدخان والطعام، لا يملك هوية حتى عام 2009، المُلكية الوحيدة الواضحة له هي للفكرة التي آمن بها وللسلاح. وفي 2003 تم اختياره ليكون جزءً من معركةِ فك الحصار عن الرئيس الشهيد ياسر عرفات، وبصعوبة شديدة وصل رام الله بسبب الاجتياحات والاغلاقات، دخل المقاطعة المحاصرة، وصار يمتَلِكُ سريراً مع المقاتلين هناك، لكنه مكث أياماً وعاش بين طولكرم ورام الله إلى أن تترتب بعض الأوضاع التنظيمية. أخبروه أنه سيلتقي عرفات، جَفِل ابنُ التاسعةَ عشر عاماً، نظر إلى جَسَدِه النحيل وعمرِه الفتي الذي سيواجه زعيم الثورة والقضية، عرفات هو فِكرَته الإلهية الخالدة، وبموته يعيش الفلسطينيين أيتاماً، قرر الهروب من اللقاء خائفاً من فكرة احتمال استهزاء الزعيم به، سأل كمال نفسه: من أنا لأكون ضمن فريق فك الحصار! بحثوا عنه فلم يجدوه، وعندما عثروا عليه لاحقاً أخبرهم بمخاوفه فقال: أموت دفاعاً عنه لكن اعفوني من رؤيته. أصبح بنظرهم: الشاب المجنون. أضيف للجنون درجة أخرى حين رفض مبلغاً مالياً من الزعيم، كان يرى لأول مرة في حياته عملة الدولار. صار اللقاء حتمياً وغضب أبو عمار أيضاً. قال عرفات: "لم يحدث أن رفض المبلغ أحد" ونظرة احترام استثنائية في عيونه. كان كمال يرى أن هناك من هو أحوج للمال منه، لأن جُلّ ما يريده هو توفير مقومات صموده وهي بعض السجائر وما تيسر من الطعام، وما يصله من ذخيرة.

كمال "الصيد الثمين"

أقام كمال في المقاطعة عاماً واحداً إلى أن استشهد عرفات وانتُخِب محمود عباس رئيساً عام 2005، بدأت محاولاتُ إنهاءِ ملف المطاردين الأربعة عشر كبادرة حسن نوايا للرئيس الجديد، وهكذا أًخرِج المطاردين من المقاطعة بينهم كمال، واحتجزوا في سجن الاستخبارات العسكرية في رام الله، عُرض عليهم اتفاق دولي يوقِفُ قِتالَهُم ولا يُلزِم الطرف الاسرائيلي بشيء ويتعامل معهم على أنهم ارهابيين، رفضوه وكتب كمال الرد موضحاً التعديلات المطلوبة. تدخل عمر سليمان وزير المخابرات المصرية آنذاك وتم تعديل البنود. مضى على احتجازهم عاماً ونصف، إلى أن أعلن انهاء الملف وأنهم يستطيعون التحرك في مناطق (أ). وقبل خروجِهِم فوجئوا بمهاجمة قوات كبيرة من جيش الاحتلال لمقر احتجازِهِم وضَربِه بالقذائف، فشلت كل الاتصالات الدولية لوقف الهجوم. استمرت الاشتباكات من الثانية عشر ليلاً وحتى السادسة صباحاً في الأول من آذار 2006 واعتقلوا جميعاً رغم الاتفاق الدولي، وكان اسم العملية: الصيدَ الثمين.

تقول أَختِه رجاء: كنا نرسل له الطعام يومياً، وننام مطمئنين راجين الله أن ينتهي الملف بعودته، لكن هذا اليوم خاننا، فقد استيقظنا على خبر اعتقالِه".

عوفر.. برائحة البصل

بدأت تجربة الاعتقال في سجن عوفر، وتحقيقٌ دام ثلاثة أشهر لم يُثمر عن اعتراف، كانت لحظات الشبح على الجدار لأربعين يوماً هي الأقسى على كمال، يُغمى عليه فيوقظوه بطرقهم الارهابية، قرر أن الموت أرحم لذا لن ينطق، ونَسي حتى اسمه. وبدأت رحلة المحاكم، كَيلٌ من التهم الموجهة إليه بلا اعتراف، فيما فشلت التدخلات الدولية لاطلاق سراحه.

كان اسمُ كمال أبو سفّاقة معروفاً لدى الأسرى، هو المُقاتل الحي، بينهم المناضل عوض مِسحِل الذي قضى معه ثمانية شهور ورآى كمال وهو يستجمع قواه وحيويته، وخلال يومين بدأ بخدمة زملاءه في مكان يعتبر مِعباراً. قال مسحل: "شكّل كمال حالة داخل السجن وهو صاحب فكرة أكل البصل الفائض للوقاية من الأمراض". ركز كمال على الأسرى الجدد والشباب عبر توعيتهم بطرقِ الاسقاط وآلية التعامل داخل السجن والتواصل فقط مع شاويش القسم. كمال القاريء النَهِم والمثقف كما يصفه مسحل، لملم الكتب والصُحُف المتناثرة هنا وهناك وأنشأ مكتبة، وهكذا أصبح نقله تأديبياً إلى سجن الرملة ضرورة لدى إدارة السجون.

مكتبة "البُرش".. وحياة "البوسطة"

يُعد سجن الرملة "مِعباراً" أيضاً فهو نقطة اعتقال بين سجنين، يتجمعُ فيه الأسرى المرضى، مكث فيه مؤقتاً ثم أُرسِل إلى سجن النقب؛ كومة من الخيام تتجاوز الحرارة فيها الأربعينات، السجن بحالة سيئة لاسيما الطعام، فيه أكثر من ثلاثة آلاف معتقل. بدأ بتأسيس مكتبته الثانية، فكك "البُرش" أي سريره البدائي والمصنوع من الخشب، وحوّله إلى رفوف. ولأن في السجن"أنت لست وحدك"، جمع زملاءه بعض الخشب وصنعوا له "برشاً" جديداً، تولى كمال مسؤولية اللجنة الثقافية والأمنية، وصار قسم (جيم 3) فيه وقت للقراءة والرياضة والجلسات الثقافية والأمنية وللنوم، وبدأت تتزايد طلبات الأسرى الانتقال إلى القسم الذي ضم مائة وعشرين أسيراً.

النجاح في السجن وتنظيمه يعني بالضرورة الحرب من إدارته، وهكذا عاش عامه الثاني (2007) في سيارة البوسطة متنقلاً من سجن إلى آخر، وفي مجدو قرر وزملاءه في القسم الاضراب عن الطعام لمدة سبعة عشرة يوماً إلى أن أُعيد إلى النقب، وتنقل من قسم إلى أخر، وأُرسِل إلى العزل حين تقدّم لامتحانات الثانوية العامة.

استنفار "النقب"

المعتاد في السجون أن تقوم الادارةُ بإحصاء المعتقلين وتفتيشهم ثلاث مرات يومياً، بعدها لا يحق لها التفتيش الليلي، لكن قوات خاصة من وحدتي "متسادا" و"ناحشون" اقتحموا سجن النقب في أكتوبر من عام 2007 وأمطروه بالغاز والرصاص، رد الأسرى وبينهم كمال  بما يملكونَه في أقسامهم من قطع خشبية وملاعق طعام، سقط الشهيدُ الأول محمد الأشقر برصاصةٍ في الرأس، استمرت المواجهات، وبقيَ القسم الذي يضم كمال الأخير المحاصر، اقترح كمال استمرار المواجهة داخل السجن وتغيير المعادلة باللجوء إلى حرق الخيمة على من فيها من أسرى وسجانين بدلاً من الاستسلام، انتشلت القوات الاسرائيلية الأسرى عنوة وبالضرب المميت من الحريق، واتُّهِم كمال وأربع آخرين بالتحريض على الاستنفار الذي أدى إلى 250 اصابة أيضاً، صوّر الاسرائيليون العملية وبُثّت على القنوات الاسرائيلية.

قيل أن كمال استُشهِد، وصل الخبر إلى العائلة ومُنظمة الصليب الأحمر الدولية التي زارت كمال للتأكد من وضعِه، وسُمِح له بزيارة كانت الوحيدة طوال فترة السجن من والدته. شكّل الاستنفار انعطافة وطريقاً لمفاوضات جديدة مع ادارة السجون من أجل تحسين شروط الحياة القاسية في النقب، وتحققت العديد من المطالب.

كذبة نيسان... خروج إلى الحياة

كانت الأزهار تتفتح، الربيع ينطلق، كمال يستعد لمغادرة السجن في الأول من نيسان 2008، ليس كذبة بل حقيقة، أو كأن حياته الماضية كانت كِذبة، فقد خرج حياً من بين الأموات الشهداء، وكأن "كل الملائكة الذين أحبهم أخذوا الربيع من المكان وغادروا"، هكذا قال شاعره المفضل محمود درويش. خرج وفي جعبته حُزنٌ دفين، ووصيةً ماتزال بين يدي أخته رجاء بلا تاريخ، صالحة لكل الأزمان، وصيةٌ قتلتها مئة مرة وهي تعيد قراءتها بعد كل اشاعة موت واصابة واختفاء. كمال يحاول منذ خروجه أن يقدم  شيئاً لعائلته الصابرة، عبر احتوائها والوقوف إلى جانبها في أبسط اللحظات. كمال أخيراً يمتلك شيئاً، لديه منزل فيه كل ما تحتاجه عائلة، لكنه العائلة، عاشق للوحدة، بَرّيُ الطباع يحط فيه مثل طيرِ مهاجرِ، مواسِمه هي أماكنُ النزاع، هجرة دائمة في حب الوطن... بين ثنايا هذا البروفايل موجات من الضحك لابد منها، يتقدم بطلب تصريح لدى الجانب الاسرائيلي لزيارة فلسطين التاريخية، الطلب مرفوض، يعرف لكنه يتلذذ في ذلك، ويُقهقِه محتفياً بالرفض... إنه المقاتل الحي.

بقلم/ بثينة حمدان