العلوم ومسيرة التعايش مع الأخطاء

بقلم: ماهر الجعبري

بعدما بيّنا أهمية ممارسة التفكير الناقد لتنخيل الحقائق وكشف الخزعبلات المتعلقة بالأطروحات العلمية حول أصل الكون وتركيب المادة وتخلق الحياة فيها، وتطور الخلية البسيطة إلى إنسان مفكر، وغزوة القمر، وغيرها من الأسئلة الوجودية، نباشر في هذا المقال مناقشة الموقف العام من تلك المخرجات العلمية وبيان مدى الوثوق والتصديق بها، من حيث اليقين بقبولها أو الظن بصحتها أو رفضها، وذلك عبر إبراز مبدأ قبول الأخطاء في الأبحاث العلمية، مما قد يغيب عن أذهان الناس، خلال تلقيهم لتلك الأطروحات العلمية، وعند قبولهم بمبدأ التسليم بها بما يشبه الإيمان!

يمكن أن نستهل هذا المقال بالقول: إن اليقين العلمي يكاد أن يكون مستحيلًا في جُلّ المخرجات العلمية إن لم نقل كلّها، ومما لا شك فيه للعارفين بطبيعة البحث العلمي أن العلم هو مسيرة ظنّية مثقلة بالأخطاء وقابلة للشك والرفض، حيث لا يمكن عبورها إلا بعد القبول بمبدأ التعايش مع سلسلة عريضة من مصادر الأخطاء، وتلك المصادر المقررة للأخطاء تؤكد حتمية تسرب الخطأ إلى النتائج العلمية ذاتها، وهو ما ينفي اليقين عن تلك النتائج بشكل حتمي، وفي هذا السياق ينقل عن ريتشارد فاينمان أن «الدين هو ثقافة الإيمان، بينما العلم هو ثقافة الشك»[i].

تبرز تلك الصفة «الظنية» العامة في المنهج العلمي عبر ملاحظة النشاط العلمي ومراجعة خطواته التنفيذية، وعبر استحضار مبدأ التقريب المعتمد في تلك النشاطات والخطوات البحثية، وتعتمد مصادر تسرّب الأخطاء للطريقة العلمية على طبيعة النشاطات والإجراءات البحثية، وتفرض تلك المصادر حضورها الحتمي في الأبحاث العلمية: سواء كانت في أبحاث تجريبية (مخبرية) أو أبحاث وصفية تعتمد أدوات (تقريبية) للملاحظة، أو كانت من نوع وصف الظواهر العلمية باستخدام النماذج الرياضية (Modeling)، والتي تتم بوضع وحل معادلات رياضية يتم اشتقاقها من القوانين الفيزيائية الأساسية، من أجل ضبط العلاقات بين العوامل المؤثرة في ظاهرة معينة، وهي التي يستند إليها العلم -في العادة- من أجل التكهن أو التوقع بما يمكن أن يكون عليه السلوك المادي تحت ظروف متجددة.

وتتم الأبحاث العلمية التجريبية (سواء كانت أساسية مثل أبحاث الذرة، أو تطبيقية مثل أبحاث تطوير الأدوية) عبر التجارب المخبرية التي يجري فيها تقريب الظاهرة المدروسة وتصغيرها ضمن حدود وإمكانات المختبرات، ولذلك فإن التجربة العلمية هي تمثيل أو محاكاة للواقع المبحوث، وليست الواقع على حقيقته، أو هي صورة مقربه له أو مصطنعة عنه، ومن ثم فإن ذلك التقريب يمثّل بداية الابتعاد عن مطابقة الواقع، وبالتالي بداية الابتعاد عن الوصول للحقيقة حول ذلك الواقع المدروس مهما علت درجة الدقة.

ويتم خلال ذلك التمثيل للظاهرة التحكم بالمتغيرات التجريبية من خلال عزل تأثير بعض الظروف الواقعية التي توجد فيها الظاهرة في العادة، وتثبيت قيم بعض المتغيرات التي تتحكم في الظاهرة، ومن ثم إحداث تغيير مُفْتعل على قيمة عامل تجريبي معيّن يكون محل الدراسة في تلك التجربة المحددة، وليس ثمة تجربة منضبطة تمامًا، بما يعني استحالة الوصول إلى اليقين من خلال التجربة العلمية.

ومن المقطوع به عند العلماء أنه ليست ثمة قياسات أو بيانات علمية يمكن أن تكون دقيقة إلى حد الكمال. ويسرد العلماء قائمة عريضة من الأخطاء (العلمية) التي لا فكاك عنها، قمت بعرضها في كتابي «مناهج البحث العلمي- عرض مهني من منظور حضاري»[ii]... منها أخطاء أدوات القياس الناتجة عن عدم دقة الأداة أو عدم معايرتها بشكل جيد، والأخطاء الشخصية للباحث نفسه، والأخطاء العشوائية، إضافة إلى الأخطاء الإحصائية في التعامل مع البيانات، والأخطاء معروفة الأسباب التي يتعايش معها الباحث نتيجة عدم قدرته على تجاوزها، من مثل حدوث تغيّرات طفيفة في تجارب أُريدَ فيها تثبيت عامل معين، وهكذا تطول القائمة...

إذًا، حيثما قلّبت الأمر، تجد حشدًا من مصادر الأخطاء في التجارب العلمية، وهذه الأخطاء المحتملة (والمقبولة علميًا) تقضي بأن ما ينتج عن تلك التجارب يحتمل الخطأ، وأنه لا يمكن أن يكون حقيقة يقينية، بل إن وجود مصدر واحد للخطأ ينفي عنها اليقين، فكيف يكون الحال بقوائم عريضة وعديدة من مصادر الأخطاء؟ وكيف إذا أضفنا إلى ذلك أن تفسيرات النتائج (المتحصلة من مسيرة التعايش مع تلك الأخطاء العلمية) تستند في العادة إلى الترجيح لا إلى القطع أو اليقين؟! ثم أضف إلى ذلك كله مبدأ قبول الأخطاء في النماذج الرياضية عند تطويرها من خلال قبول الافتراضيات  غير الحقيقية (التقريبية) (assumptions)، وعند حلها بالأساليب العددية (التقريبية).

إذن لا يمكن أن تتم الطريقة العلمية بإحكام يؤدي إلى «اليقين العلمي!»، ولا يستطيع العلماء الخروج بنتائج علمية إلا من خلال التعايش مع تلك الأخطاء العديدة، ولذلك كله لا يشك العلماء الفاهمون لطبيعة الطريقة العلمية في أن نتائج الطريقة العلمية فيها قابلية الخطأ والصواب، وهي تُقبل في العلم وتُعتبر علمية رغم وجود احتمالية الخطأ تلك... وهي لا تعني أن النتائج العلمية ليست صحيحة بالجملة، ولا تُنقص من قيمة العلم التجريبي فيما هو ضمن مجالاته، ولا من قيمة التطبيقات التكنولوجية الهائلة، ولا من صلاحية استخدام الطريقة العلمية منهجًا معرفيًّا، ولكنّ قابلية الخطأ فيها لا تجعلها يقينية.

ومن هنا يبدأ سؤال كبير يجب أن يطرق ذهن كل من يريد التعامل مع العلوم على طريق الإيمان بها، والتسليم بمخرجاتها أو جعلها حَكَما على الدين، وينقل عن العالم البيئي روبرت آرثر أن العلم هو بحث عن الأنماط المتكررة، وليس تراكما للحقائقi... وهذا المعنى المقصود من طبيعتها «الظنية»: أي أن الباحثين يظنون بصحة فهم السلوك الثابت للمادة ويقبلون التعامل معها على ذلك الأساس، ويبنون عليها التطبيقات الملموسة، ومع ذلك هم لا ينفون احتمال تسرب الخطأ إلى ذلك الفهم. وهذا أمر مُقررٌ عند بعض من كتب في مجال البحث العلمي، من مثل القول «إن نهاية الطريقة العلمية ليست إجابات قاطعة ومطلقة، فليس في مجال العلم حقائق قاطعة»[iii].

وحيث إن نتائج الطريقة العلمية تحتمل الخطأ، ولا توصل إلى اليقين في الغالب، فهي بالتالي لا يمكن أن تكون أساسًا لتفكير الإنسان في كل جوانب حياته، وخصوصًا في المسائل التي تتطلب الجزم واليقين، ومن هنا فلا يمكن أبدًا جعل المنهج العلمي أساس تفكير الإنسان في المسائل الوجودية التي يبني عليها عقيدته الأساسية عن الكون والحياة وأصل الوجود وما وراءه وما بعده، (كما بينا في مقال الطريق إلى المعرفة)، لأن العقيدة من صفاتها الجزم واليقين أما العلم فمن خصائصه الظن والشك، وهو يحتمل تسرب الفهم الخاطئ تمامًا إلى حد الخزعبلات العلمية.

وبعد هذا البيان، نتابع تأصيل مستويات المخرجات العلمية من حيث الشك أو الرفض أو اليقين، أو من حيث مستويات التصديق والتكذيب، في المقال اللاحق إن شاء الله.

بقلم/ ماهر الجعبري