في مطلع آب/أغسطس أي قبل أسابيع قليلة تحدثت تحت عنوان(الرمزية تتجاوز الجدل...وجوبا) من زاوية عدم جعل الرموز محل جدل من أي نوع كونها صارت حالة تجسد القضية أو جانبا مهما من القضية...الآن سأتناول مسألة الرمزية من جانب آخر لا يقل أهمية من وجهة نظري على الأقل.
فان ثي كيم فوك والجنرال جياب
ربما يصعب علينا في غمرة تزاحم وكثافة الأحداث تذكر الاسم الأول، وهو اسم امرأة فيتنامية، عرفت واشتهرت حينما كانت طفلة عمرها تسع سنوات، حينما التقطت لها صورة وهي عارية ونصف جسدها محترق بفعل قصف أمريكي بقنابل النابالم المحرمة دوليا، وقد خلقت الصورة ردة فعل واسعة ضد الحرب الفيتنامية، وتحولت (كيم فوك) إلى أيقونة لتلكم الحرب، من زاوية رمزية الضحية، فكيم فوك ليست وحدها من تعرض للحرق، بل قتل القصف ذاته اثنين من أقاربها وعدة أفراد من قريتها، هذا إضافة إلى ما سبق وما لحق من جرائم أمريكية في بلادها، وبقيت كيم فوك تمثل هذا الجانب من الرمزية.
كيم فوك الآن تعيش في كندا وهي متزوجة ولها أولاد وتدير مؤسسة لرعاية ضحايا الحروب من الأطفال، ولأن حرب فيتنام انتهت فإن هذه المرأة بالتأكيد لم تعد أيقونة حدث قائم بل أيقونة تاريخية لحدث مأساوي أو إجرامي.
أما الجنرال جياب فطبعا اسم من الصعب نسيانه؛ لسهولة لفظه على ألسنتنا أولا، ولدوره البطولي في دحر الاحتلال الفرنسي ولاحقا الأمريكي عن بلاده، ولأن من طبيعة الشعوب المحتلة، استلهام أو الاحتفاء بأبطال وقفوا في وجه الاستعمار ولو من بلاد أخرى بعيدة، فإن اسم جياب مشهور فلسطينيا، خاصة في مراحل سابقة.
كيم فوك رمز وجياب رمز لنفس البلد(فيتنام) الأولى صارت رمزا بفعل صورة التقطها مصور لوكالة أسوشييتدبرس، والثاني صار رمزا بفعل إخلاصه وحرصه على تحرير بلده من الاستعمار الفرنسي ثم الأمريكي وما نحته من بطولات بالسلاح والخطط العسكرية الهجومية أو الدفاعية...الأولى كانت على ديانة وثنية وتحولت إلى المسيحية قبل سنين، والثاني شيوعي...الأولى تعيش في كندا وهي على مقربة من الستين من عمرها وقد تموت في كندا، والثاني مات قبل بضع سنين وقد جاوزت سني عمره القرن في العاصمة الفيتنامية هانوي...كلاهما تحدثا عن التسامح، مع عدم نسيان ذكريات الماضي الأليمة فيما يخص العلاقة مع الأمريكان.
لم تطغى ولا تناقض بين رمزية الفتاة المحترقة كيم فوك ورمزية البطل العسكري جياب، ولا أدري هل أثير مثل هذا النقاش العابث في فيتنام أي الحرص على رمزية دون أخرى أو الخوف من طغيان رمز على آخر؟!
ضحايا الصهيونية وأبطال المقاومة
ضحايا الصهيونية منذ عقود طويلة كثيرون، ومنهم الأطفال والنساء والرجال المسالمين الأبرياء، وبالطبع ثمة من قدّر الله لهم(أي من الضحايا) أن يُعرفوا محليا ودوليا بفعل التصوير أو الإعلام الذي تطور كثيرا في الفترة الأخيرة، فتحولوا إلى رموز أو أيقونات.
فمثلا في مطلع انتفاضة الأقصى في أواخر أيلول/سبتمبر 2000 رأى العالم كله تقريبا قتل الطفل محمد جمال الدرة في قطاع غزة، وهو يحاول الاختباء وراء والده الذي كان يصرخ ويحاول صد الرصاص بيديه...أصيب جمال بجروح تسببت له بإعاقة دائمة في الأرجل، واستشهد ابنه محمد في مشهد، التقطته عدسات كاميرا وكالة فرنسية صحفية، تعجز الكلمات عن وصف بشاعته...وقتها كنت عزبا ولا أطفال لي، ومع أنني كنت مصدوما من المشهد الذي كان يعرض على كل شاشات التلفزة على مدار الساعة، ولكن كنت انظر إليه، ولكن لاحظت من هم أكبر مني ولديهم أطفال يشيحون بوجوههم، وأحدهم قال لي:سري رجاء بديش أشوف هاي الصورة..خلص غير المحطة!
بعدها ببضعة أعوام حينما أصبحت أبا أدركت ما يشعر به أب ليس له قوة قلب لرؤية الفيديو، فالأب الذي يفترض أن يحمي ابنه، كون الابن الطفل يرى أباه هو الحارس والحامي والملاذ من أي خطر، عاجز أمام زخات الرصاص، فالأب لم يستطع حماية ابنه ولا حماية نفسه بطبيعة الحال...وقد تحول محمد الدرة إلى رمز لانتفاضة الأقصى، ورمز لمعاناة الشعب الفلسطيني من إجرام جيش الاحتلال، وكان المشهد دافعا أو وقودا إلى تصعيد ميداني، وعدد من الشبان اندفعوا وانخرطوا في انتفاضة الأقصى غضبا وحزنا بعد هذا المشهد.
محمد الدرة طفل عادي كما قال أحد أساتذة مدرسته في لقاء معه وقتها، ووالده عامل بسيط ابن عائلة فلسطينية عادية تعيش في مخيم البريج الذين هجرتهم العصابات الصهيونية من جنوب فلسطين(بئر السبع)...ولكن شاءت الأقدار أن يصبح رمزا وأيقونة صارت وقودا متجددا لانتفاضة الأقصى.
ومثل محمد وإن بدرجة أقل بحكم أن الحدث الأول على قاعدة إن جاز لنا أن نستخدمها مستوحاة من حديث نبوي شريف(سبقك بها عكاشة)، يظل له وقع أقوى وأكثر تأثيرا ويحفر أعمق من الحدث التالي في نفس الإنسان وذاكرته؛ فهناك فارس عودة الذي لحق بالدرة بعد حوالي شهر في مشهد مختلف حيث شاهد العالم طفلا عمره 15 عاما يلقي الحجارة على دبابات الميركافاه المحصنة التي تعجز بعض القذائف الصاروخية عن اختراقها، ولهذا سماه الرئيس عرفات بـ(الجنرال)...فالفتى فارس هو رمز يجمع بين الضحية والبطل في آن واحد.
وأحيانا فإن ترميز الضحية لا يقف عند إلقاء المرثيات والبكاء والعروض الإعلامية، بل كما قلنا في حالة الدرة يصبح وقودا يعطي زخما مضاعفا لحدث قائم(انتفاضة الأقصى)...أو ينتج عنه حدث آخر، فقيام مستوطنين يهود بخطف وحرق الطفل محمد أبو خضير في منطقة دير ياسين في القدس كان من تداعياته حرب غزة الثالثة في صيف 2014.
أما حرق عائلة دوابشة في قرية دوما قرب نابلس على يد مستوطنين حاقدين، فكان من نتائجه بعد شهور قليلة ما عرف بهبة أو انتفاضة القدس التي بدأت بعملية قتل مستوطنين قرب مستوطنة إيتمار بسلاح ناري، مع عدم التعرض لأطفال المستوطنين، وتلتها عمليات طعن فردية في مختلف المناطق...والدرة وعودة وحجو وطميزي ودوابشة وغيرهم رموز وأيقونات من زاوية الضحية البشعة أو المباشرة للاحتلال.
ولا يتعارض هذا مع رموز المقاومة وأبطالها وشهدائها وأسراها عبر تاريخ الصراع منذ الانتداب البريطاني وحتى اللحظة، فقوى وحركات المقاومة وفصائل العمل الوطني والإسلامي قدمت قادتها شهداء؛ سواء أكان لنا تحفظات أو رأينا أن الفصائل تقترف أخطاء أو خطايا، فإن مشهد قادتها الشهداء وما يحمله من رمزية وبطولة يجبرنا على تجاوز تلك الأخطاء، لأن مشهد الشهداء فوق الأكتاف وقبورهم الناطقة الصامتة صوته-أو هكذا يفترض- أقوى وأعلى مما سواه.
الفكرة أنه لا تعارض بين تحول ضحية للاحتلال غالبا ما يكون طفلا أو إنسانا عاديا إلى رمز شعبي ووطني فلسطيني، وبين ما يحظى به المقاومون من شهداء أو أسرى أو غيرهم من رمزية...وبكلمات أكثر صراحة:لا خوف على طغيان رمزية الضحية على رمزية المقاوم أو العكس، ولنا في مثال كيم فوك المحترقة والجنرال جياب عبرة.
بقلم/ سري سمّور