دَوْمًا كانت ترتفع شِعارات منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة خفَّاقة، تُردِّد: إنَّ فلسطين من النهر إلى البحر، وعملتْ منذ قُدُومِها على تأكيد ذلك من خِلال ميثاقها، وأعلنَتِ الحرب الفدائيَّة ضدَّ أركان جيش الاحتلال في كافَّة مناطق وجوده، بل كانت تدورُ معارك خارج الحدود الفلسطينيَّة والعربيَّة من خِلال بعض العمليَّات الفدائيَّة التي كانت تُصِيب وتقتُل العديد من الإسرائيليين.
منذ طُفولتنا ونحنُ نتابع القضيَّة الفلسطينيَّة؛ فهي كانت - وما زالت - همَّنا وشاغلنا الأوَّل، ومن خِلال مُعايَشتنا للاحتلال أسرَتْنا "م. ت. ف"، وتحديدًا "حركة فتح" بثوريَّتها التي كانت - وما زالتْ - تُهَيمِن على هذه المنظمة.
أناشيد تُحفَر بذاكرتنا كنَّا نُغنِّيها ونحن صِغار، وكبرنا ونحن نُردِّدها؛ ومنها: "شعب فلسطين لا تنسى اللي جرى لك، احمل سلاح غيره بالدنيا مالك، شعب فلسطين لا ترضى الحل السلمي، بارود ونار ما أحلى هذه الكلمة، ما إلك أمان تنيم ابنك بالعتمة، تصبح بتنام صهيوني يبقى جارك).
شربنا لبن الثورة، وتكوَّنت لدَيْنا القناعة بأنَّ فلسطين هي الأرض التي نموتُ ونحيَا لأجلها؛ لتبقى في قلوبنا وفي وجداننا، نسيرُ على درب أسلافنا في حلم تحريرها، نُقاتِل ونُسلم الراية لِمَن خلفَنا ليكمل المشوار إلى أنْ يصل جيلٌ يرفَع العلَم فوق القدس، ويُعلِن عن مبدأ الثورة في تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وببساطة المعادلة، هكذا فَهِمنا، وهكذا قَبِلنا وهتَفنا يومًا لمنظمة التحرير الفلسطينيَّة ولحركة فتح.
اليوم تبدَّلت المعادلة وتغيَّرت أهدافها، وأصبح كلُّ الماضي من أمجاد ومواثيق وقَرارات، ووُعود وعُهود هو في دَفاتر الماضي وللماضي، أمَّا سجلاَّت الحاضر، فلها استَسلَمَ البعض، ولا نفهَم معنى آخَر لهذه المعادلة!
"سلام" يجعَلُنا نترُك أرضَنا، ونعتَرِف بالاحتلال وبحقِّه في الوُجود على تُرابِنا، ونلغي حقَّ الملايين في حلم العودة، ونصبح حرَّاس أمْن على حماية مُستَعمَرات الاحتلال الجاثمة على صُدورنا، وتهويد قُدسنا أمام ناظرينا، وأسرانا تعجُّ بهم سجون وزنازين الاحتلال، بل وأدهى من ذلك نُحارِب مَن يُحارِب عدوَّنا! فلا نعرف معنًى لهذا غير "الاستسلام"، بل الخنوع والخيانة لقضيَّتنا العادلة التي يؤمن بها كلُّ أحرار العالم، ناهِيك عن المواثيق الدوليَّة، والأعراف الإنسانيَّة، وبلا شكٍّ تؤمن بها كافَّة الأديان السماويَّة قبل أيِّ قوانين وضعيَّة.
انقسَمْنا على أنفُسنا، وكثيرٌ منَّا لا يفهم معنى وسبب انقسامنا، ويضع ذلك في مربعات تخدم أهواءَه وانتماءاته الحزبيَّة، ومصالحه الشخصيَّة والفرديَّة، ضاربًا بالمصلحة الوطنيَّة ومفهومها وتفسيرها عُرض الحائط.
ليس هناك ما يُسمَّى انقسامًا حقيقيًّا على الثوابت؛ فكلُّ إنسان يحمل في طيَّات قلبه وخلجات نفسه معانيَ وطنيَّةً وكرامة، لا يفرط في ثوابت القضيَّة، لا فرق لدَيْنا بين فتح وحماس والجهاد والجبهة وغيرهم من الفصائل الفلسطينيَّة، الفرق بينهم في عرفنا هو بين مَن يُحافِظ على ثوابتنا وحمايتها ولا يفرط في حقوقنا، وبين مَن يتفاوَض باسمنا دُون عِلمنا، ويُقدِّم بالمجَّان ما ضحَّى به الأجداد والآباء وُصولاً للأبناء.
نعم؛ نحن نفرق بين هذا وذاك، بحجم الذي يُقدِّمونه ويضحُّون به من أجل فلسطين، لا بحجم تنازُلات ومتاجرة بما تبقَّى من أراضينا وُصولاً إلى إنهاء قضيَّتنا وتصفيتها تحت مُسمَّيات وهميَّة خدَعُونا بها وقالوا عنها: سلام.
يا منظمة التحرير الفلسطينية:
كُوني للتحرير منظمة، وعُودي إلى ميثاقك الذي به اشتعلَتْ شرارتك الأولى، ومنه انطلقتِ وسِرتِ على درب المقاومة والتحرير، لا طريق المفاوضات والاستسلام والخُنوع، ما زال هُناك أبواب مفتوحة للعودة إلى تبنِّي خِيار الشعب وخِيار الحق، ما زال هناك مَن يفتح لكم صُدورهم لإصلاح ما أفسدَتْه سياستكم وعبثيَّة مُفاوَضاتكم.
عُودوا إلى صَوابِكم والى أحضان شَعبِكم؛ فلكلِّ حرٍّ مقاوم مكانٌ في هذا الوطن، وهو يتَّسِع لكلِّ الشُّرَفاء من أبنائه، ولا خيار أمام مَن تخاذَلَ عن تلبية واجب الدفاع عن الوطن، ومقاومة الاحتلال، والإصرار على الاستمرار بالتلاعُب بالشعب ومقدَّساته، فقد منحَكُم الشعب عقدين من الزمن وأنتُم تسيرون خلف سراب اسمُه "سلام"، أو أوهمكم الأعداء أنَّ اسمه سلام، فلم تتقدَّم محادثاتكم قِيدَ أنملة، ولم تعيدوا فلسطين - للأسف - إلى أصحابها، ولم تمنحوا عودةً لملايين اللاجئين الذين لا يزالون يحتَفِظون بمفاتيح بيوتهم، وكنتُم في كلِّ مرَّة تعودون إلى نقطة الصفر، بينما الأرض تضيع وتُسحَب من تحت أقدامكم، فلا بقيت قدسٌ، ولا عاد الأسرى لعائلاتهم، ولا توقَّف القتل والقصف، وما زالت الحواجز والحصار ومزيد من الحروب الطاحنة تحدُث أمام ناظركم وأنتُم عاجزون عن الحراك.
يا منظمة التحرير:
إمَّا أنْ تكوني لتحرير فلسطين منظمةً وداعيةً، وتعودي إلى خندق المقاومة، وإلا فأعيدي ترتيب هيكليَّة منظمتكم حتى تكوني على قدر المسؤوليَّة التي حملتها على عاتقك.
فإلى متى ستبقَوْن في هذا الانقسام؟ وإلى متى ستعيشون في أوهامكم بأنَّ الاحتلال سيهبكم دولة؟
بقلم/ محمد الافرنجي