الإسرائيليون والفلسطينيون : المأزق المتَبَادَل

بقلم: لبيب قمحاوي

خاضت إسرائيل العديد من المعارك في سياق عدوانها المستمر على الفلسطينيين تماماً كما خاض الفلسطينيون العديد من المعارك لمقاومة الإحتلال الإسرائيلي ، ولكن ماهي نتيجة كل ذلك ؟

كلا الطرفين فشلا في تحقيق ما أرادا . فالإسرائيليون فشلوا في سحق الفلسطينيين وشطبهم من الواقع السياسي والديموغرافي السائد على أرض فلسطين التاريخية وكذلك من خارطة الصراع الاقليمي ، كما أن الفلسطينيين فشلوا حتى الآن في هزيمة إسرائيل أو النجاح في الضغط عليها إلى الحد الذي يسمح بتحقيق الأهداف الوطنية الفلسطينـية أو حتى جـزأً منهـا . وكلما إزدادت ضراوة الواقع إزدادت ضراوة المقاومة القادمة من هذا الطرف أو ذاك والرفض للإستسلام لذلك الواقع أو القبول بمطالب الطرف الآخر ، فما العمل ؟

لقد عزا الكثيرون أسباب الفشل الفلسطيني إلى القيادة الفلسطينية ، ولكن من الخطأ الإفتراض بأن الفلسطينيين لوحدهم يعانون من إنهيار قيادتهم السياسية وإنحرافها عن النهج الوطني العام . فالإسرائيليون والجسم السياسي الإسرائيلي يعاني أيضاً من أمراضٍ قد تكون أكثر خطورة وأكثر تأثيراً بالنتيجة على واقعهم ومستقبلهم السياسي من ذلك الضرر الواقع على الفلسطينيين بحكم النهج السياسي والأمني لقيادتهم خصوصاً بعد اتفاق أوسلو .

قوة إسرائيل الحقيقية والفعلية تكمن في مَنَعَتِها العسكرية التي تجعل منها أمراً واقعاً مفروضاً بقوة السلاح لا يمكن التخلص منه في ظل موازين القـوة الإقليميـة السائـدة . وهذه المَنَعَة هي ما يجعل اسرائيل قادرة على الصمود والاستمرار في تعنتها بالرغم عن الأمراض العديدة التي تكتنف نظامها السياسي ، وبالرغم من جنوح مسارها السياسي في العقود الأخيرة وباضطراد ملحوظ نحو اليمين وأقصى اليمين بشكل صادم وإلى الحد الذي انتهى الآن بسن قانون "قومية الدولة ويهوديتها" والذي يُقرّ قانونياً ، وللمرة الأولى ، بأن النظام في إسرائيل هو نظام فصل عنصري لا يعترف إلا بمواطنة اليهود من مواطنيه .

الفلسطينيون في المقابل فشلوا من خلال قياداتهم في التقدم ببرنامج وطني فلسطيني شامل وواضح المعالم وملزم لكل القيادات والفصائل الفلسطينية . واختارت القيادات الفلسطينية التواصل مع الاحتلال من خلال الأبواب الخلفية حيناً والأمامية أحياناً أخرى متجاوزين الالتزام الفلسطيني التقليدي بالثوابت الوطنية الفلسطينية كما أوضحها الميثاق القومي الفلسطيني . وقد ساهم هذا المسار في تعزيز وجهة نظر اليمين الاسرائيلي في عدم اعطاء الفلسطينيين أية تنازلات لأن التنازل الفلسطيني المجاني قادم في كل الأحوال ، وأن الموضوع هو موضوع وقت فقط .

وهكذا أخذ الفلسطينيون باللعب في الملعب الاسرائيلي وضمن الشروط الاسرائيلية بإعتبار أن الوسيط والحَكَمْ الأمريكي منحاز أصلاً إلى اللاعب الاسرائيلي مع أنه يُشكّل وبموافقة القيادة الفلسطينية محور المفاوضات ومرجعيتها . وهكذا تمتع الإسرائيليون بالتفوق السياسي إضافة إلى تفوقهم العسكري ، ولم ينجح الفلسطينيون خلال تلك العقود الماضية بفرض مسار أكثر اعتدالاً على الطرف الأمريكي ، وقامت القيادة الفلسطينية بالتنازل التدريجي عن العديد من الثوابت والسياسيات إلى أن انتهى بها المطاف للخضوع للموقفين الإسرائيلي والأمريكي مما أدى إلى وصول الفلسطينيين إلى طريق مسدود يأخذ بموجِبِهِ الإسرائيليون كل شي ويبقى للفلسطينيين الأمل المتضائل في كَنَفِ قيادة متراجعة .

ولكن الأمور لم تقف عند ذلك الحدّْ ، وتَحَوَّلَ الواقع الفلسطيني المرير في الصراع مع الاحتلال إلى صراع مع الذات . وجاء التغيير الأخطر من خلال تكريس الانقسام الفلسطيني بأيدٍ فلسطينية والتعامل معه في بعض الأحيان بإعتباره أكثر خطراً على مصالح السلطة الفلسطينية من الاحتلال نفسه ! مسار عجيب وخطير ولكنه يعكس الأمر الواقع الفلسطيني . وتَحَوَّلَ هذا الوضع إلى واقع جديد مؤلم وخطير تقوم السلطة الفلسطينية بموجبه بالإتكاء على الدعم المباشر أو غير المباشر لسلطات الاحتلال في خلافها مع حركة حماس الفلسطينية . وفي الوقت نفسه ، فإن حركة حماس التي جاهرت بالعداء للاحتلال الاسرائلي لم تتورع عن الخوض في مفاوضات غير مباشرة وأحياناً مباشرة مع سلطات الاحتلال للتوصل الى ترتيبات وإتفاقات هدنه سواء أكانت هدنة قصيرة الأمد أم طويلة الأمد ، وبمعزل عن أي تنسيق مع السلطة الفلسطينية .

وهكذا ، في الوقت الذي جاهرت فيه حماس بالعداء للاحتلال الإسرائيلي وبالتعهد بإستمرار النضال ضده ، وفي الوقت الذي جاهرت فيه السلطة الفلسطينية بالتخلي عن مسار الكفاح المسلح واختيار المسار السياسي ، فإن كلا الفريقين لم يتوقف فعلاً عن التواصل مع الاحتلال الاسرائيلي بوسائل وطرق مختلفة ولأهداف مختلفة قد تتناقض في أحيان كثيرة مع المصلحة الوطنية الفلسطينية .

لقد غاب عن ذهن الكثيرين ومنهم القيادات الفلسطينية المختلفة أن نضال الشعب الفلسطيني لم يرتبط أصلاً بحزب أو تنظيم أو عقيدة بقدر ما كان عفوياً يعكس رفض الشعب الفلسطيني لإحتلال وطنه فلسطين وتصميمه وإصراره على إستعادة ذلك الوطن . وقد جاء إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية لتأطير تلك المشاعر والثوابت الوطنية الفلسطينية وليس لخلقها من العدم . وفي الواقع فإن دور بعض القيادات والتنظيمات الفلسطينية جاء معاكساً لآمال وطموحات وثوابت الشعب العربي الفلسطيني سواء في سعي بعضهم إلى فك الارتباط بين العرب والقرار الفلسطيني كما عبرت عن ذلك حركة فتح في أدبياتها المبكرة ، أو في الاطاحة بنهج النضال طوعاً والتضحية به على مذبح السلام كما حصل في اتفاقات أوسلو وعقبهـا . الشعب الفلسطيني إذاً كان أكثر وعياً ووطنيةً ونضالاً من القيادات التي حَكَمَتْهُ أو معظم التنظيمات التي إدعَّت تمثيله وتمثيل قضيتِهِ وصولاً إلى محراب السلام الاستسلامي .

الآن وبعد كل عمليات الصعود والهبوط التي رافقت مسيرة النضال الفلسطيني والواقع المر للإحتلال الإسرائيلي لأراضي فلسطين ، يبرز السؤال الكبير ، ما هو وضع القضية الفلسطينية  الآن ؟؟ أين يقف الفلسطينيون وأين يقف الإسرائيليون ؟؟

يسعى الإسرائيليون الآن وبدعم أمريكي نشط وغير مسبوق إلى خلق وقائع جديدة بهدف حسم الصراع ، بغض النظر عن موقف الفلسطينيين والعرب . وهذا المسار يستند إلى  أربعة عوامل  :-

 الأول : التفوق الإسرائيلي العسكري الكاسح .

 الثاني : الضعف والتشتت الفلسطيني المتفاقم .

الثالث : ضعف وانهيار العالم العربي وإختلال أولوياته .

الرابع : دعم ادارة ترمب الأمريكية غير المسبوق للموقف الإسرائيلي ومتطلباته استناداً إلى العوامل الثلاثة السابقة . وقد إكتسب هذا المسار عنوان "صفقة القرن" وهو عنوان أمريكي أقرب ما يكون إلى العناوين السينمائية البراقة والذي يُخفي سواداً وكَرباً كبيراً في طياته تماماً مثل عنوان "حرب النجوم" للخطة الأمريكية في عهد ريجان والتي أدت إلى إنهيار الاتحاد السوفياتي . "صفقة القرن" هي عنوان لمسار أمريكي – إسرائيلي يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وإلغائها من خلال القضاء على المقومات الرئيسية لتلك القضية واخراجها بالتالي من حلبة المفاوضات تمهيداً للإعلان على إنتهائها وإغلاق ملف القضية الفلسطينية نهائياً .

إن ما يجب أن يسعى إليه الفلسطينيون الآن هو إفشال المخطط الاسرائيلي – الأمريكي المتمثل بصفقة القرن إنطلاقاً من الموقف الاستراتيجي بأن إسرائيل إذا ما ضَرَبَتْ بأقصى ما لديها وفَشِلَتْ أو تم إفشالها ، فإن ذلك يشكل في الواقع بداية النهاية لمسار التعسف المستند إلى القوة المسلحة الطاغية . وهذا ما يتوجب على الفلسطينيين فعله . فالمسار الاسرائيلي العسكري فَشِلَ في كَسْرِ إرادة الشعب الفلسطيني من خلال اللجوء إلى القوة المسلحة على مدى العقود الماضية ، والآن تسعى اسرائيل إلى استعمال السلاح البديل وهو إلغاء ثوابت القضية الفلسطينية مثل عروبة القدس وإلغاء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وحق العودة ، إنتهاءً بإلغاء كافة حقوق الفلسطينيين في وطنهم فلسطين من خلال فرض قانون يهودية وقومية الدولة ، وتحويل وضع الفلسطينيين من مواطنين على أرضهم وفي وطنهم فلسطين إلى أجانب مقيمين في دولة اسرائيل اليهودية دون أية حقوق أو حتى الحق بالمطالبة بأية حقوق .

وهكذا فإن حرمان اسرائيل من القدرة على الانتصار من خلال حسم وضع الفلسطينيين وإلغاء قضيتهم عوضاً عن حلها سوف يَضَعْ الاسرائيليين أمام مأزق حقيقي من خلال تَرْكِهِمِ بلا خيارات سوى خيار التعامل مع الفلسطينيين كأصحاب حق وأصحاب قضية تفرض على الاسرائيليين المبادرة بالتغيير وتقديم التنازلات المطلوبة واللازمة للفلسطينيين من أجل الوصول إلى تسوية عادلة من منطلق أولوية الحق على أولوية القوة .

الرفض الفلسطيني القاطع والمانع لمجمل السياسات الأمركية والاسرائيلية الأخيرة يجب أن يكون إذاً شعار المرحلة الحالية . وأي محاولة فلسطينية أو عربية للقبول بصفقة القرن أو ذيولها بأي صيغة وتحت أي مبرر يشكل خيانة للقضية الفلسطينية يجب رفضها ومحاسبة المسؤولين عنها فيما لوحصلت. 

بقلم/ د. لبيب قمحاوي