من ينتصر في صراع الارادات؟

بقلم: عماد شقور

يبدو ان "حملة" الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وادارته المفرطة اليمينية، ضد الفلسطينيين، لم تصل إلى محطتها الأخيرة بعد. وهي في كل وثبة من وثباتها في هذه الحملة الهوجاء، تكسر، في حدتها وعدائيتها، رقما قياسيا كانت وثبته السابقة قد حققته. فمن قرار اعتراف تلك الإدارة بالقدس، (دون توضيح حدودها، وان تضمنت ما يمكن أن يوحي بأن المقصود هو حدود القدس لعام 1967)، عاصمة لإسرائيل، إلى تنفيذ عملية نقلها، حتى وان كان ذلك رسميا فقط، حتى الآن. ومن تقليص ما خصصته من اموال لدعم ميزانية السلط الفلسطينية، إلى حجبها بالكامل، باستثناء ما هو مخصص لاجهزة في اطار "التنسيق (!) الامني" الذي يخدم المصالح الإسرائيلية. ومن خفض الدعم لوكالة الغوث "الأونروا"، إلى قطعه بالكامل. ومن الغاء عضويتها في "الأونسكو"، احتجاجا على وقوفها إلى جانب الحقوق الفلسطينية المشروعة، إلى تهديد محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بفرض عقوبات عليها، وحتى بالتهديد بمحاكمة قضاتها، إذا دخلوا الأراضي الأمريكية، ان هي استجابت لمطالب فلسطينية بالتحقيق في جرائم قيادات سياسية وعسكرية إسرائيلية.
ما هكذا تتصرف قوة عظمى. هكذا تتصرف عصابات من العصاة الخارجين عن الشرعية وعن القانون الدولي.
تعرّض الفلسطينيون، منذ النكبة، إلى أقسى وأصعب وأمرّ مما يتعرضون له هذه الأيام، لكن شوكتهم، بالغة الضعف والهشاشة في كل ما له علاقة بعناصر القوة المادية الملموسة، (والمتغيرة على أي حال)، لم تنكسر ابدا، (وان كانت قد الْتَوَت قليلا، ومالت قليلا، باعترافها بحق إسرائيل في الوجود، مقابل اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني). يكمن سر ذلك في انها تمتلك الأهم بين عناصر القوة الثابتة، وهو عنصر الحق التاريخي، والشرعي ايضا، في الحياة والحرية وتقرير المصير، أسوة بكل شعوب الأرض، استنادا لوثيقة النقاط العشر التي اعلنها الرئيس الأمريكي، وودرو ويلسون، والتي اعتُبرت وثيقة مؤسسة لنظام عالمي جديد، في مطلع القرن الماضي.
هذا الحق الفلسطيني التاريخي والطبيعي والشرعي، لا وجود لامكانية هزيمته، شريطة ان يكون مدعوما ومعزّزا بارادة ثابتة راسخة. ولقد اثبتت الوقائع توفر هذه الارادة لدى الفلسطينيين:
ـ كانت بداية اثبات توفر هذه الإرادة في تشكيل "الجبهة الشعبية" في مناطق الـ 1948، قبل أقل من عقد على النكبة المتزامنة مع إعلان قيام دولة إسرائيل، وكان من أبرز رموز تلك الجبهة، رئيسا بلديتي شفاعمرو وكفر ياسيف: جبّور جبّور وينّي ينّي.
ـ تلا ذلك بدء تشكُّل "حركة الأرض"، ومن أبرز نجومها منصور كردوش، من الناصرة، وفخري جْدَي، من يافا، وحسن أمّون، من البعنة، وصبري جريس، من فسوطة، وعلي رافع، من دير الأسد، وغيرهم كثيرون.
ـ وقبل أقل من مرور عقد على النكبة الفلسطينية، بدأ تشكّل تنظيمات سياسية للمقاومة ورفض الواقع المفروض، في نابلس بداية ثم في قطاع غزة والخليل.
ـ وفي هذا السياق على هذا الصعيد، كان بدء تشكل النوى الأولى للمقاومة العملية الحقيقية في قطاع غزة، من خليل الوزير (أبو جهاد)، (مع الاحتلال الأول للقطاع، في إطار العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956)، ومعه محمد الأفرنجي، من غزة، و.. العايدي، الذي تسلل من الخليل إلى غزة، وغيرهم كثيرون.
ـ لكن الأكثر أهمية، بالتأكيد، كان تشكيل حركة التحرير الوطني الفلسطيني ـ فتح، التي اعتمدت مبدأ الاعتماد على ابناء الشعب الفلسطيني أولا وأساسا، ثم الاستعانة بالعرب ثانيا، ومحاكاة الثورة الجزائرية، والمقاومة والثورة الفيتنامية، ومحاولات التعاون وطلب الدعم من الصين، ومحاولة الخروج والصعود إلى واجهة العالم بمعناه الدولي، من خلال بناء علاقة وتعاون مع الاتحاد السوفياتي، بوساطة الزعيم العربي المصري الخالد، جمال عبد الناصر، استنادا إلى قرار صمود ومواجهة مع جيش الاحتلال والاستعمار الإسرائيلي، الذي اصيب بسكرة انتصاره المذهل في حرب حزيران/يونيو 1967، في "معركة الكرامة" التاريخية، في آذار/مارس 1968، وفي ظل إحباط عربي شامل. دون ان ننسى، في هذا السياق، ان أبرز رموز هذا الفعل الفلسطيني، هم ياسر عرفات (أبو عمار)، وخليل الوزير (أبو جهاد)، وصلاح خلف (أبو اياد)، وغيرهم كثيرون، اضافة إلى صاحب الدور المميز، الرئيس الفلسطيني الحالي، محمود عباس (أبو مازن).
ـ ثم لحق بذلك الغث والسمين: تحولت "حركة القوميين العرب" إلى "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وأبرز رموزها: جورج حبش، وغسان كنفاني، وأبو علي مصطفى الزِّبري، بالاضافة إلى ياسر عبد ربه، الذي انشق لاحقا عن الجبهة الشعبية، ليشكّل، ومن معه، "الجبهة الديمقراطية" وليكون هذا التنظيم الجديد آخر التنظيمات الوطنية الفلسطينية المستقلة، ولتليه "تنظيمات فلسطينية (!)" تدين بالولاء لهذه الدولة العربية أو تلك، من سوريا إلى العراق وغيرهما، ولتتراجع الجزائر اقتداء بمصر التي ركزت من البداية على اعتماد ما يختاره الفلسطينيون لانفسهم.
نعود من هذا السرد التاريخي إلى واقعنا هذه الأيام. فعن أي إسرائيل يتحدث الإسرائيليون؟، وعن أي إسرائيل تتحدث الإدارة الأمريكية؟، وعن أي إسرائيل نتحدث نحن الفلسطينيون هذه الايام؟ واين هي العقدة المستعصية على الحل إلى الآن؟
واقع الحال هو ان كل واحد من هذه الأطراف يتحدث عن "إسرائيل" هي غير "إسرائيل" الآخر.
"إسرائيل" في الأساس وفي الواقع، وكذلك في المستقبل المنظور، هي دولة ومجتمع مفروض، وبالقوة فقط، على الفلسطينيين والعرب والشرق الأوسط بكامله، وان كانت تتذرع بحجج تاريخية غير حقيقية، وغير مثبتة على الأقل. وتحول الله، سبحانه، إلى مجرد "سمسار عقارات" ظالم، لا أكثر ولا أقل. اعطى، بأمر من امرأته سارة، (وربما امرأة غيره ايضا، حسب توراتهم(!))، أرض فلسطين، لواحد فقط من ابنيه الاثنين: اسماعيل، بكره من خادمته المصرية، واسحق، ابنه من زوجته سارة، التي ابلغ فرعون مصر انه شقيقته وليست زوجته. وحكايا كثيرة غيرها، لا يتسع المجال هنا إلى سردها والى شرح معانيها وايحاءاتها ايضا.
وكون إسرائيل مفروضة، حولّها، بالضرورة إلى دولة مرفوضة.
رضي الرافضون بالمفروضين، وقبلوا التفاوض معهم، بهدف التوصل إلى حل وتسوية فيها شيء من "العدل النسبي"، (حسب تعبير الزعيم الفلسطيني الخالد، ياسر عرفات). لكن المفروضين رفضوا كل عروض المعتدلين والمتسامحين بين صفوف الرافضين، وقتلوا اسحق رابين، وحاصروا عرفات، وقتلوه بالسم، حسب روايات صحف عالمية موثوقة.
حوّلت القمة العربية "دولة إسرائيل"، بشروط غاية في التواضع، في بيروت سنة 2002، من "دولة مرفوضة" إلى "دولة من دول المنطقة"، لكن إسرائيل، وبدعم من أمريكا، لم ترضَ بهذا الوضع، واصرّت على ان تكون إسرائيل "دولة" فوق المنطقة. وجاءت إدارة ترامب لتكون أكثر تطرفا من المتطرفين الإسرائيليين في حكومة نتنياهو.
سلاح إسرائيل، وداعمها الأمريكي الأهوج، هو القوة العسكرية والمالية. هذا سلاح فعال في مواجهة غير المؤمنين بحقهم، لكن الفلسطينيين مؤمنون بحقوقهم العادلة والشرعية، وتأييدهم في العالم، بل وفي أمريكا وفي إسرائيل ايضا في تنامٍ وازدياد.
هذه سياسة أمريكية حمقاء، مصيرها الفشل.

عماد شقور

٭ كاتب فلسطيني