الرسالة الرابعة عشرة

بقلم: فراس حج محمد

لست حزينا بتاتا وإن كنت غير سعيد أيضا

سلام من القلب، أما بعد:

في حادثة قديمة تعود إلى أكثر من أربع وعشرين سنة طويلة، قال لي زميل في الجامعة: "من كان مثلك لا يحق له الحب"، كانت جملة موجعة بالتأكيد ما زالت تحفر في أعصابي، كل النساء اللواتي رغبت في الارتباط بهن وقد أصبحت موظفا نفرن مني نفورا شديدا، كوني فقيرا ومعاقا، ما زلت أسترجع موقف تلك المرأة "المثقفة" التي طلبتها للزواج نظرت إلي باحتقار شديد بعد أن تواعدنا لتراني وأراها، وقالت: "لا أفكر بالزواج الآن". هي أرادت أن تقول إنك لا تناسبني بعد أن خاب ظنها في رؤيتي وقالت: أهو أنت؟ قالت الجملة بازدراء شديد. زميلات الجامعة لم يكنّ يعرنني أي اهتمام حتى أنهن لم يكنّ يلقين علي التحية. صديقي رائد بعد أن قرأ كتاب "نسوة في المدينة"، ولاحظ الانفجار الشهواني في القسم الثالث منه قال إن سبب ذلك هو الحرمان منك، ذلك الحرمان الذي وضحته في القسم الثاني من الكتاب. لذلك فقد سيطرت عليّ الأحلام كثيرا في هذا القسم.

لا شك في أن تحليله صحيح، لقد كانت علاقتنا قوية جدا ونحن عاشقان افتراضيان، ولكن عندما تعرفتِ إلي في الواقع نفرت مني أيضا، لقد صحت فيك رغبات كل امرأة؛ تريدين رجلا عاشقا وسيما وغنيا ومعافى بدون إعاقات. الآن أفهم بعدك عني بهذه الطريقة القاسية. أنا أجمل في عيونك ما دمت افتراضيا، هذا ما قلته في كتاب "نسوة في المدينة"، فلا داعي لتعاتبيني على الغياب أو على هذا الجفاء، وقد اختبرت كل ذلك، وخصوصا في لقاءاتنا الأولى.

لم يعد يقنعني بتاتا قولك ونظرياتك المثالية المدعاة، وأنا أرى ما أرى. لكن لا يهم، المهم هو أنني أصبحت أقدر على معرفة الحقيقة وتقبلها. عندما كتبت قصيدة "الفقير لا يصلح للحب" كنت صادقا مع نفسي صدقا حقيقيا، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنني حزين أو سلبي، على العكس تماما. كانت هذه التجربة، وكل التجارب الأخرى متسقة مع ما استقر في نفس المرأة وقد عبر عنها الشاعر القديم "إذا شاب رأس المرء أو قل ماله فليس له من ودهنّ نصيب"، وأنا ليس لي نصيب من ودك غير التقلب في مرارة الحب التي لم تأت إلا بمزيد من وضوح الرؤيا.

هل كنت مهووسا عندما صدقت أنك تحبينني؟ أظن أنني كنت خياليا مغرقا في توقع النتائج الإيجابية. لعلك كنت تسألين نفسك كيف نسير معا، وأنت تعرج، إنك تلفت النظر إلينا، لذلك علينا ألا نسير معا في نزهة أو شارع، كل ما هنالك كان الرضا بالجلوس معا في مقهى أو مطعم، هذا الجلوس الذي يخفي إعاقتي وفقري.

من حقك أن تحلمي بعاشق جميل ومعافى وإن كان من حقي أيضا أن أحب امرأة جميلة، حتى وإن قال ذلك الزميل ما قال. ناضلت كثيرا لأسعد بهذا الحب، ولكنه كان شقاء مطلقا، إنه يؤول إلى ما آل إليه من هذا الذي تشاهدينه ونعايشه بمرارة، لكنني لا أخجل من إعاقتي أو فقري المدقع، فكلنا فقراء ومعاقون في نهاية المطاف، أو لنكن إيجابيين ونقول: كلنا أغنياء وأصحاء أيضا ما دمنا أحياء ونمارس شهوة الحياة ودفء الحب وإن كان بالوهم.

لا تحاولي أن تفسري الأمور بغير هذا المنطق، أو تدعي غير هذا، فرسالتك الأخير عابثة جدا، ولا معنى لها غير أنه أصبح لديك فسحة من الوقت لتتسلي بي، وإلا ما معنى تلك التخاريف التي قلتها: "واضح أنني أنسى، لكن ذاكرتي المثقوبة تعيد لي بعض نزواتك التي لا تنتهي، ولتهنأ بهيامك أبدا". هذا هو الوهم الذي عشش في ذاكرتك المثقوبة، فلست بالتأكيد كما لمحت إليه إطلاقا، فأي هيام أهنأ به ونحن على ما نحن عليه؟ إنه موجع جدا لو ظننت غير هذا وخاصة في جملتك الأخيرة غير المفهومة "ولتهنأ بهيامك أبدا". أي جنون يستعمر عقلك لو أن ما وصلني من معنى هو المعنى الذي تسلق جدران عقلك؟ لا أريد أن أوضح أكثر، فليس من حقنا أن نعتدي على حرمة الآخرين حتى ونحن نناقش مسألة عاطفية غاية في التعقيد.

أما بخصوص رسالتك الأخرى: أبهجتني رسالتك الأخيرة، أحب هذا التفاؤل في كتاباتك وأشعر أننا نستحق أن نعيش الحياة كما ينبغي لا كما تفرضه علينا، ابق بهذه الروح وهذا الجمال. هل لي بنسخة (pdf) من كتاب "نسوة في المدينة؟"، فقد كتبت ببرود واضح، فلم أشعر بحرارة الحب فيها، لقد دفعك الفضول لكتابتها، بعد أن قرأت مقالة رائد حول الكتاب، ولولا ما جاء في مقالته من مقاطع استفتزتك لم تكوني لتكتبي لي شيئا، فقد وصلت بالتأكيد كل الرسائل السابقة، ولكنك لم تردي عليها، وبقيت صامتة. أصبحت أعرفك على نحو أكثر حزنا للأسف. لن أرسل لك نسخة من الكتاب وعليك الانتظار حتى يطبع، وإن أحببت قراءته واقتناءه فلك ذلك. ليس لؤما بطبيعة الحال وليس تشويقا للكتاب، ولكن لعلمي أنه لا فرق بينه وبين كل كتبي السابقة، سيأخذ مكانه على رف الكتب دون أن يكون له بهجة ما.

وأخيرا أريد أن أقول إنني لست حزينا بتاتا، وإن كنت غير سعيد أيضا. دمت كما أنت ولعلنا نلتقي، أين؟ ومتى؟ فلنترك ذلك للصدفة الجارحة.

بقلم/ فراس حج محمد