نقاش أوسلو الذي يمتد على مساحة ربع قرن يحتاج إلى أكبر بكثير من منافسة حزبية بين طرفين لا ينقصهما دافع استمرار خصومة لديها من أعواد الثقاب، ما يغنيهما عن تطويع التاريخ لصالح هذه الجهة أو تلك، فالتاريخ أكبر شأناً من نقاش عابر، بل إن تلك مهمة الباحثين في آثار السياسة للتنقيب عن وثائق مدفونة في صدور شهود المرحلة أو بين مذكرات لم تقل الحقيقة كلها بعد.
المدرسة الأبيقورية في علم السياسة تقول: لا تختلفوا على التفاصيل والمناهج والمسارات.. احكموا على النتائج بعد تحققها، وإذا ما ذهبنا بهذا الاتجاه يمكن أن نصدر حكماً قاسياً على رجال تلك المرحلة، وبعضهم غادر دنيانا وبعضهم يستبد به الغضب من حجم الخديعة في نهاية المسار، وبعضهم على الجانب الآخر أسكره خمر الانتصار على أوسلو منذ أن أقسم بإسقاطه واعتبره يوماً أسود في تاريخ إسرائيل.. بهذه الكلمات كانت تبكي العجوز المتطرفة غيئولا كوهين التي كانت عضو برلمان عن حزب "الليكود" وأورثت العمل السياسي لابنها تساحي هنغبي.
هل كان أوسلو مساراً جدياً سيأخذ أطرافه إلى الحل لولا مستجدات حرفت مساره أم أنه كان متاهة بلا نهاية وكان مصمماً أن يصل لتلك النتيجة؟ حصاد ربع القرن الماضي مجرداً من عوامل التطور الطبيعي للأشياء يشير إلى أن أوسلو كان يحمل عوامل الفشل لثلاثة أسباب:
الأول: أن الفلسطينيين اعترفوا بإسرائيل دون أن يأخذوا اعترافاً مشابهاً من إسرائيل، وكل ما حصلوا عليه هو اعتراف بأحقيّة تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية وصلاحيتها للمفاوضات، وتلك كانت سقطة اعترف بها مسؤول ملف المفاوضات الدكتور صائب عريقات.
الثاني: مرحلية الاتفاق وترك القضايا الأكثر أهمية للمفاوضات النهائية، مثل القدس واللاجئين، ما مكّن إسرائيل من فرض وقائع على الأرض، تمكنت خلالها من سد الطريق على فكرة حل الدولتين بسبب ثغرة أوجدتها تلك المرحلية وتأجيل تلك الملفات.
الثالث: طول الفترة الزمنية، ما مكّن اليمين الإسرائيلي من الوصول للحكم وتنفيذ أجندته الرافضة تماماً لأوسلو تطبيقاً لتعهده بإسقاطه، وهو ما حصل بعد ثلاثة أعوام من الاتفاق ووصول بنيامين نتنياهو للسلطة عام 1996.
أما على الجانب الفلسطيني، ظل السؤال المحير فهذا اتفاق محكوم بسقف زمني محدد لخمس سنوات فكيف تحول هذا المؤقت إلى دائم؟ الجواب ليس بتلك الصعوبة لأن إسرائيل تمكنت من تكبيل النظام الفلسطيني الوليد الخداج، الذي لم يكتمل بعد ويحتاج إلى عناية وأنابيب تغذية ولا يمكن الخروج وحده نحو الحياة، ولم تكن تلك الأنابيب سوى الإسرائيلية وفي مستشفى إسرائيلي.
وهكذا وقع الفلسطيني قليل التجربة السياسية وعديم القدرة على فهم وقراءة الإسرائيلي ضحية أحلام مرة، ومرة أخرى ضحية حسن النوايا والصورة الحالمة التي أعدتها مخيلة لواقع واتفاق كان مدججاً بسوء النوايا في كل بند من بنوده، وملغماً بعبوات ناسفة وضعتها دبابات التفكير بإسرائيل في الطريق.
وهكذا دارت حرب الاستنزاف السياسي التي انتهت بالفلسطيني منهكاً خائر القوى يتصارع مع ذاته، بعد أن كانت الوقائع أقوى كثيراً من أحلامه، وكانت الأرض مزروعة بكل الكمائن التي وقع فيها الجميع في صراع سياسي مكشوف دار فوق الأرض كانت الكلمة الأولى فيه للقوة وليس القانون، وتقابل الطرفان وجهاً لوجه على طاولات التفاوض لاختبار واحد من أبرز نزاعات التاريخ في صدام بين الحقوق والحقائق... طرف لديه فائض الحقوق والرواية والآخر لديه فائض حقائق يحملها على مقدمات الدبابة والطائرة والبارجة. وحين استعصت الأزمة بهذا الانكشاف وشعر عرفات بالخديعة التي تحولت إلى غضب تحوّل إلى حريق بعد سنوات على أوسلو، أراد الراحل إطفاءه بخراطيم دم في الشارع. كانت الأمور قد أفلتت نحو مسار جديد أسدل الستار على مقدمات أوسلو ونتائجه وكانت الحقائق تفرض نفسها على الأرض من جديد، وتحطم في طريقها كل الآمال التي أحياها الفلسطيني حين اعتقد أنه أمسك ناصية التاريخ عائداً إلى الوطن ليجد نفسه تحوّل من منفى إلى سجن اختياري، تتآكل داخله إرادة السجين ويهبط سقف مطالبه من الحرية في المنفى إلى حاجات السجن الإنسانية.
مياه كثيرة ودماء أكثر جرت بنهر السياسة في ربع القرن الماضي، لم يكن اتفاق أوسلو وحده الخطيئة التي قادت نحو تلك النهايات، بل إن المعارضات لدى الطرفين التي اعتبرت أن نجاح أي اتفاق يشكل ضربة لها ولكيانها ولبرنامجها ولوجودها والدور الوظيفي التي تبرر نفسها خلاله، ويعني بشكل أو آخر نجاح برنامج يتطلب غيابها عن ساحة السياسة، لذا استشرست بالدفاع عن نفسها بإسقاط بدايات لم تكن بالضرورة تشكّل نجاحات، لكنها هبّت للدفاع عن نفسها وفعلاً تمكنت من تشكيل رأي عام ضاغط ساهم بالوصول مبكراً إلى كل تلك النتائج.
الآن بعد ربع قرن، نكتشف أن أمواج السياسة المتلاطمة وأنواء التجربة الهائجة سحبتنا إلى محيطات أكثر وعورة، وكأن السفينة أصيبت بالعطب ولم تعد قادرة على الحركة، وحقيقة الأمر أن الاستمرار بأوسلو أصبح مكلفاً، وهو ما قالته كل الهيئات والمؤسسات الوطنية وأبرزها المجالس المركزية، وأن التحرر من أوسلو أصبح أكثر تكلفة دون أن نخدع أنفسنا معتقدين أن فانوس السياسة قادر لمجرد الطلب على أن ينقلنا إلى حيث نريد....
الوضع أكثر صعوبة مما نتخيل ويحتاج إلى أساطيل كي تجر سفينته التي أصيبت بالعطب، وإلى أساطيل فكرية ومؤسسة حقيقية لم نستطع بناءها منذ أن أعطينا فرصة لتزيد طينتنا بلة، فلم نقدم النموذج ولم نتقدم، لنُصاب باندهاشة العجز التي تجد نفسها مستسهلة الحل في تبادل الاتهامات بين ركام السفينة بدل التفكير بالخروج الآمن، وتلك أسوأ من اتفاق أوسلو نفسه.
بقلم/ أكرم عطا الله