في سياق الإجابة العلمية عن الأسئلة المصيرية التي أثرناها ضمن هذا المسار المعرفي، ومنها تركيب المادة، بيّنا أن التفكير العلمي «بوصفه فرعًا عن التفكير البشري العام» حافل بمصادر الأخطاء التي يتعايش معها، ثم ميّزنا بين الحقيقة والنظرية وغيرهما، وما ينبني عليها من اختلاف مستويات التصديق بالأطروحات العلمية، من اليقين أو مجرد التصديق دون نفي إمكانية الخطأ، وكشفنا الغطاء عن تسرّب الخزعبلات العلمية إلى الأدبيات العلمية المنشورة، عبر ممارسة
التزييف في النشر العلمي.
وللتطبيق المباشر على مستويات التصديق العلمي، نتفاعل في هذا المقال مع الذرة وتركيبها، كتصور مفصلي في البناء العلمي المعرفي: إذ عليه تُبنى كافة التصورات العلمية التفصيلية، والتي تجيب عن الأسئلة الوجودية من مثل أصل الحياة وأصل الوجود، والتي هي تفسيرات علمية مبينة على سلوك المادة والإشعاعات المنبعثة عنها، إما عبر تحليل التفاعلات الكيميائية والحيوية، كما في نظرية تخلّق المواد العضوية، وإما عبر تحليل الخلفية الإشعاعية في الكون، التي يُستدل بها على مكونات النجوم والمجرّات وأعمارها.
وقبل مناقشة ذلك التصور العلمي ذاتَه، لا بد من إشارة عامة إلى نهج التوصل إليه: إذ قد يظن البعض -في غفلة- أن العلماء تمكّنوا من مشاهدة تفاصيل الذرة بالتكبير تحت الميكروسكوب الهائل، ومن ثم توصّلوا لحقيقتها ومكوناتها، وكأن المفهوم العلمي انطبق على الواقع فأصبح حقيقة، وهذا فهم مغلوط تمامًا، إذ إن الذرة ومكوناتها مغيّبة عن إدراك الإنسان المباشر!
وصحيح أن أبحاث الذرة قائمة بالعموم على الأسلوب التجريبي «الملموس»، إلا أن مخرجاتها ليست نتائج حسّية مباشرة من بيانات التجارب نفسِها، بل تسبق التجاربَ فرضياتٌ «متصورة ذهنيًّا»، ويتبعها ممارسةُ منطقِ الاستدلال التجريبي (empirical deduction).
ومنطق الاستلال ذاك هو نفسه الذي عبّر عنه ذلك العربي في الصحراء «قس بن ساعدة» بأن البعرة تدل على البعير، ومن ثم فإن الأشعة ومساراتها وانعكاساتها تدلل على مكونات الذرة، أي إن التصور العلمي للتركيب الذري لم يُبن على الإحساس المباشر بالأشياء، وإنما على الإحساس بآثارها، ومنطق الاستدلال هذا لا يختلف عن الاستدلال على الإيمان الغيبي، كالاستدلال على وجود الخالق من خلال وجود المخلوقات.
كيف – إذن- يمكن أن يَقْبل المفكرُ العلمي بذلك التصور الذري «الغيبي» ثم يرفض مفاهيم الإيمان بالغيب عبر أسلوب الاستدلال نفسه: الاستدلال على وجود الأشياء «المغيبة» من آثارها؟ بل كيف يُبرر علماء ومفكرون انفتاحهم على من ينكر وجود الخالق بينما هم ينغلقون على من يشكك –مثلًا- في صحة ذلك التصور العلمي؟!
إضافة لذلك، فإن طريق العلم يبحث في اتجاهين: في جوهر الأشياء «تصورها» وفي وجودها، أمّا طريق الإيمان العقلي فيبحث في وجودها فقط، ولا يبحث في تصوّر حقيقتها «كالبحث في وجود الله لا في ذاته»، ونتيجة البحث في وجود الأشياء يقينية «لأنها مبنية على الإحساس/ اليقيني»، أما تفسير وقائع الأشياء فظنّي يحتمل الخطأ؛ لأنه عملية ذهنية تحليلية فوق حدّ الحكم على الإحساس، ومع ذلل قَبِل بعض المفكرين طريق الظن في المفاهيم العلمية ورفضوا طريق اليقين في المفاهيم الإيمانية؟!
ونتيجة مسيرة الأبحاث التجريبية الأساسية توصل العلماء إلى أن المواد تتكون من ذرات دقيقة، وأن جوهر الذرة وثقلها «الكُتْلي» هو النواة التي تحتوي على البروتونات ذات الشحنة الموجبة، والنيوترونات المتعادلة، والنواة محاطة بحجم هائل من الفراغ: ولو تصورنا –جدلًا- الذرة بحجم غرفة، فإن النواة تكون بحجم بعوضة فيها أو أصغر من ذلك، وتكون الغرفة هي حجم الفراغ، ولا شك أنه من العسير على العقل أن يهضم ما هو «الفراغ» الهائل الذي يملأه «لا شيء» و«لا ثقل»!
ثم استنتج العلماء أن الإلكترونات سالبة الشحنة تسبح في ذلك الفراغ وتدور حول النواة. وقد تصوّروها بداية جسميات دقيقة، ثم لاحظوا أن ثمة نتائج لتجارب تناقض وصفها بالجسيمات، ثم لاحظوا – من سلوك الإلكترونات- وجود صفات موجية لها، ثم انتهوا إلى «الحل الوسط» بأن الإلكترونات هي ذات صبغة مزدوجة: مادية وموجية في الوقت نفسه، مما لا يمكن للعقل تصورَه حقيقةً، إذ كيف يكون الشيء جسيمًا ملموسًا وموجة لا تلمس؟! ورغم تلك الاستحالة الواقعية، قبلها العلماء!
نعم هي تناقضات عقلية، وعصية على التصور، ولكنها علمية؟!
ونتوقف عند هذا العرض المبسط، مع العلم أن الأبحاث العلمية تتتابع في تفصيل المشهد الذري، عبر الحديث عن مكونات أصغر وأصعب تصورًا مما ورد أعلاه، مثل الكوارك (quark)، الذي هو جسيم أوّلي له كتلة ولكن أبعاده صفرية. وهنا صعوبة ذهنية أشد وقعًا في تصور كتلة بلا حجم! والأصعب من ذلك الحديث عن جسيمات مضادة تدعى «كواركات مضادة»، ثم الحديث عن المادة المضادة التي تُفني المادة إذا اصطدمت بها، وهكذا تتابع مسيرة التعقيد، وعسر الهضم الذهني لتلك الأفكار العلمية.
ورغم ذلك كله، يتبادر لأذهان الكثيرين أن التصور الذري هو حقيقة علمية راسخة لا تقبل الجدل، وهنا تكمن الإشكالية التي نطرحها في هذا المسار المعرفي، وخصوصًا عند أولئك الذين يتصورون أن التركيب الذري المطروح هو سقف المعرفة العلمية في هذا المجال، أو أنه اليقين، وبالتالي يتحول هذا التصور في أذهانهم إلى ما يشبه الإيمان بذلك الغيب العلمي «رغم تناقضات بعض أجزائه، وصعوبة تصوره الذهني».
نعم، إن الذرة ومكوناتها هي غيب لا يقع الحس المباشر عليه: كشف العلم عن بعض جوانبه عبر الاستدلال على آثاره، فمثلًا استدل على وجود البروتونات موجبة الشحنة من ملاحظة انحراف مسار أشعة جاما الموجبة لدى اعتراض مسارها من قبل النواة التي تحتوي البروتونات، أي إن العلماء اقتنعوا بوجود البروتونات الموجبة من خلال تفسير أثرها لا من ملاحظتها مباشرة.
إذن، إن الحقيقة أن ذلك التصور لتركيب الذرة ليس حقيقة! بل هو كما يقول العلماء
الفاهمون: "على الرغم من كل الملاحظات حتى اليوم فيما يتعلق بالعناصر وسلوكها الكيميائي، وعلى الرغم من حقيقية أن النظام (الجدول الدوري- الذري)، قد مكّن الإنسان من توقع وجود عناصر قبل التحقق من وجودها تجريبيًّا، فإن مفهوم الذرة، الذي ينبني عليه الجدول الدوري يمكن أن يكون خاطئًا تمامًا" (completely erroneous)(1).
فإذا كان تصور العلم التجريبي للذرة على هذا المستوى من الشك والتقريب، «وصعوبات التصور الذهني»، واحتمالية الخطأ الكبير، فماذا يمكن القول عن مستوى اليقين في تفريعات العلم الأخرى التي استندت إلى ذلك التصوّر «الهش» والقابل لأن يكون محض خطأ؟ وكيف يكون حال أي يقين علمي مدّعى وخصوصًا أن ذلك التصور القابل للخطأ هو مرجعية العلم الحديث؟ بل هو المجال الذي تسبح في فضائه تلك الفرضيات التي تحاول تفسير أصل الوجود وأصل الحياة من خلال دراسة الإشعاعات والتفاعلات! ومن أين تأتي الفكرة السطحية التي يطرحها بعض المؤلفين في مجال البحث العلمي حول «اليقين» في العلم، التي هي تورّط وتوريط في وصف حالة لا وجود لها في قناعة العلماء العارفين بطبيعة البحث العلمي، ولا في وعي المفكرين الفاهمين لجوهر الطريقة العلمية.
من هنا، يمكن إطلاق الرصاصة الأولى تجاه «كيان الحقائق العلمية» الذي انتصب في عقول البشر كأنه مسلمات تُشبه الإيمان، ومن هنا يتزعزع ذلك التسليم المطلق بالعلم، وذلك الانقياد الطوعي لمخرجاته، وذلك القبول بالعيش داخل الصندوق العلمي. وإذا أضفنا إلى ذلك كله، أن أكثر الناس يتلقّون التصور العلمي «الغيبي» عن طريق الرواية «كما بينا في مقال الرواية»، فالتجارب الذرية والنووية في متناول الدول فقط، صار التحرر من الأسر في خرافة «اليقين» العلمي الموهوم أمرًا ملحًا للبشرية جمعاء؛ من أجل أن تفهم سر الوجود.
ولذلك فإنه على الرغم من روعة التطبيقات التكنولوجية المبنية على تصورنا الحالي للذرة، يمكن أن نكتشف يومًا أن تصورنا هذا هو من الخزعبلات العلمية، وهذا الشك لا ينفي صلاحيته للاستخدام حتى يومنا هذا.
ولا شك أن الحضارة المستقبلية التي ستتمكن من اكتشاف التصور الأصح للتركيب الذري ستُضاعف من مستوى الإنجازات العلمية، وستحظى بتقدير أعظم من الذي تلقته الحضارة الغربية التي فتحت المجال العلمي بهذا التصور للتركيب الذري. ولدي حَدْس دائم أن ذلك الفتح العلمي سيكون من نصيب الأمة الإسلامية عندما تستعيد موقع الصدارة فوق الأرض كما كانت، وعندما يعود علماؤها على نهج الذين سبقوهم وخطّوا الطريق للعلماء الغربيين.
هذا المقال ينفي اليقين عن التصور الذري للمادة الذي استطاع العلماء إخضاع سلوكها للتجربة، فكيف بالأسئلة العلمية الوجودية للمغيبات عن الإحساس المباشر من مثل أصل الوجود وأصل الحياة، مما لا يمكن أن تخضع للتجربة؟ وهل هي فعليًّا من العلوم المعتبرة أم العلوم الزائفة، ذلك ما يناقشه المقال التالي.
بقلم/ ماهر الجعبري