توفي والدي سعيد عبد الرحمن أحمد بدوان (أبو العبد) رحمه الله، وطيب ثراه، في شباط/فبراير عام 1975، كنت في الصف العاشر (الأول الثانوي) في ثانوية اليرموك للبنين، وشقيقي خالد الأصغر مني في الصف الثامن في اعدادية المالكية، وأصغرنا احمد في الصف السادس الإبتدائي في مدرسة صرفند. وهكذا عشنا اليتم مُبكراً من بين اشقائنا وشقيقاتنا الأكبر سناً منّا. فلم نرتوي من صحبة الوالد في حياته القصيرةِ معنا، وزاد من حالة اليتم أن جميع أقاربنا وعائلتنا من والدي (عائلة بدوان وعائلة عبد الرحمن) ومن والدتي (عائلة عابدي وعائلة الحاج) بقوا في فلسطين المحتلة عام 1948، والجزء الأخر منهم في فلسطين 1967. فلم يكن لنا بدمشق وسوريا عموماً اقارب من الدرجة الأولى سوى إثنان من أعمامي : عمي المرحوم عبد الكريم (أبو برهان) وابنته الوحيدة هيام، وابنه الوحيد المرحوم برهان الذي تاه في العراق إبان النكبة عندما كان في عمر الفتوة وذهب مع الجيش العراقي المنسحب من فلسطين، لنستهدي عليه بعد سنواتٍ طويلةٍ ونعيده لدمشق. وعمي المرحوم أنيس (أبو عمر) وابنائه (خمس ذكور : عمر، أحمد، الشهيد محمد، محمود، ياسين. وثلاثة بنات : وفاء، سناء، عبير). أما عمتي (فاطمة) فقد تزوجت ابن عمها عبد القادر محمد بدوان وانتقلت الى عمان في الأردن بداية خمسينيات القرن الماضي.
تلك العائلة (أي عائلتنا الصغيرة) توسّعت بزواج شقيقاتي وأشقائي، وابناء وبنات عمي، وبتنا نعيش بين أبناءٍ وأحفاد، حيث أصهرتي المرحوم منصور شرفي، والمرحوم زهير غزاوي، والمرحوم محمود ناطورية، وعائلة شاهين ... عدا عن العائلات التي صاهرناها بزواجنا نحن الذكور، من عائلة زغموت من الصفصاف قضاء صفد، ومن عائلة الحصري من صفد، ومن عائلة شرشرة من صفد، ومن عائلة دوخي من طبريا، ومن عائلة حوتري من حي الميدان الدمشقي. عدا العائلات التي ناسبناها في زواج أبناء وبنات عمي وبناتنا وابنائنا، وهي عائلات كثيرة ومن كل بلاد فلسطين.... ولتصبح البذرة الطيبة والعطرة، التي زرعها والدي ووالدتي وعمي أبو عمر وزوجته فيروز السهلي، شجرة كبيرة وارفة الظلال في سوريا، تنتمي لهذا الشعب العربي الفلسطيني العظيم، الشقيق السيامي التوئم للشعب العربي السوري.
أن تعيش يتيماً، وأن تحيا عائلتك لوحدها في هجرةٍ قسريةٍ اثر نكبة العام 1948، مسألة لايُمكن القفز عنها، فقد تركت تلك الحالة شعوراً عميقاً في دواخلي، انعكس على نشأتي الوطنية، وعلى تكويني السياسي، وايماني القاطع بأهمية أن يترافق العمل الحياتي اليومي بالعمل السياسي الوطني، حيث اكتساب العلم والمعرفة والسير في ضنك الحياة وعراكها يجب أن يتوزاى مع العمل الوطني، لذلك اخترت لنفسي هذا الطريق ومازلت سائراً على هداه، وراسماً المشوار ذاته لأبنائي.
أن تعيش يتيماً، ومهجراً، لاجئاً، ومنكوباً، وبعيداً عن وطنك المغتصب، يعني أنك ترزح تحت طبقاتٍ من الظلم، فالظلم كالفقر المدقع، يتراكم طبقات فوق بعضها البعض، لكن تلك الطبقات تنهار ولاتبقى، فالظلم لايدوم مهما طال واستطال ليله، ومهما ازداد كُحله الغامق.
أن تعيش يتيماً، ولاجئاً، يعني أن تُعارك ضنك الحياة بكل قسوتها وجبروتها، حيث يترتب عليك عندها أن تكون استثنائياً، وإلاّ فالحياة ستضرسك بأسنانها وأنيابها الحادة، وتأخذ بك الى عوالم الشقاء والتعاسة ...
عشت مرحلة اليُتم، ولم تَكُن فلسطين تغيب عن خاطري، كما كان الحال عند والدي قبل وفاته، فقد توفي والدي وهو يحلم بالعودة الى مدارج طفولته، وفتوته، وشبابه، الى حيفا التي ولد على ترابها عام 1914، وعاش وعمل بها كميكانيكي في سكة الحديد، وكسائق (فورمان) للقطار، وخرج منها مُكرهاً وله من العمر 35 عاماً تقريباً.
توفي والدي (أبو العبد) رحمه الله، وهو يحلم بالعودة الى حيفا الميناء، حيفا الفينري، وحيفا شارع الناصرة، وشارع الملوك، وشارع ستانتون، ووادي النسناس، وساحة الجرينة، وساحة الحليصة، ومسجد الإستقلال، وقهوة العجمي أسفل بناء العجمي، وقهوة الراديو في الطابق الأرضي من بناء شبيب في شارع الملوك بحيفا ... حيث فارق اصحابه، ورفاقه، وأصدقاء فتوته وشبابه من جيله، فتبعثر الجميع في تغريبة النكبة الكبرى، وضاع عن الأصدقاء الأوفياء، ومنهم زملاء العمل في سكة الحديد في حيفا، وطالما تذكَّرَ لفيف أًحبابه وأصدقائه أمامنا ونحن صغار السن، وقد احتفظت ذاكرتني بأسماء بعضاً منهم وفق ماكنت أسمعه من والدي رحمه الله : المرحوم المقدسي عبد الداروجي (من حي الطالبية في القدس الغربية التي تم احتلالها عام 1948) الذي لجأ الى مخيم قلنديا في البداية ومن ثم الى الزرقاء في الأردن. الأستاذ والمدرس في حيفا عبد الرحمن الخمرة. وسعد خماش النابلسي وصاحب محل الخياطة في حيفا والذي جاء بعد النكبة لدمشق وافتتح محلاً للخياطة في الحجاز خلف البريد المركزي. وعبد الجارحي الذي لجأ الى سوريا وأقام في حي الشاغور. والمرحوم نجيب المرعي من بلدة أم الفحم ومن متعهدي الأراضي الزراعية، والذي كان يستعين بوالدي لإصلاح الآلات الزراعية في مواسم الحصاد في أم الفحم واللجون ومنطقة المثلث في عارة وعرعرة والعفولة، وقد بقي في فلسطين في مدينته أم الفحم. وأبو خليل نفاع صاحب مقهى في حيفا. وشعبان الأسود (الحجّار). وخالد شنكل الصفدي الأصل وصاحب محل الحلاقة في حارة الكنائس. وحسين ونايف أبو العردات. وأبو شحادة ستيتية. وحسين عبود السكافي أبو محمد صاحب محل (درازة) وتصليح الأحذية في محل يقع في بناية العجمي. وأبو سميح مسعود من قرية (بُرقة) قضاء نابلس والذي كان يقيم في حيفا، وبالجوار من منزلنا، وقد رحل يوم النكبة الى قريته برقة، وتشاء الصدفة أن أتعرّف على ابنه الكبير الدكتور سميح، دكتور الإقتصاد السياسي ومدير المركز الكندي لدراسات الشرق الاوسط في مونتريال. وعائلة عباسي التي اصبح أحد أبنائها ممن ولد في حيفا ضابطاً كبيراً في الجيش العربي السوري بعد النكبة وهو اللواء وليد عباس من قوات الدفاع الجوي السوري. وبهجت البيلاني زوج عمتي (آمنة بدوان) اللبناني المقيم في حيفا، والذي كان يمتلك محلاً في حيفا لصناعة الأحذية الجلدية الأصلية من الجلد الطبيعي، والذي خرج من فلسطين عام النكبة باتجاه مدينة صيدا حيث مدينته وعائلته الكبرى. والمرحوم أحمد طاهر أبو عبيد (أبو أسامة الياموني)، ورغم لقبه (الياموني) الذي اشتهر به نسبة لبلدة (اليامون) قضاء جنين، إلاّ أنه من بلدة (عرابة) قضاء جنين أيضاً القريبة من بلدة (اليامون) ... وكان المرحوم أبو أسامة الياموني الصديق المخلص لوالدي، وكما يقولون الصديق من "الروح للروح" وقد أهداه صورته عام 1933 وهو في ريعان الشباب، ومازلنا نحتفظ بها، حيث كتب لوالدي خلف الصورة البيتين التاليين :
أموت وتبقى صورتي لأحبتي ولفيف عائلتي وأهل داري
اذ ليس للانسان بعد مصيره غير الرسوم ندوم للأبادي
أما والدتي الصابرة، والصبورة، لطفية قاسم عابدي (أم العبد) من مواليد حيفا 1926، والدتها خيرية نايف الحاج، وجدتيها : أم والدها اللبنانية الطرابلسية زهرة المختار، وأم والدتها الصيداوية اللبنانية فاطمة القلعاوي. فقد كانت الأم المتعلمة من فلسطين من زمن البلاد الذهبية، البلاد المزينة بالعلم والمعرفة والحضارة وعمق التاريخ.
والدتي العصامية في حياتها المنزلية والأسرية، التي تصنع "للبرغوث كلسون" كما يُقال في المثل الشعبي الفلسطيني، كانت هي اليد المساعدة لزوجها في معترك الحياة، وحاملة الهم بعد وفاة والدي، حيث باتت وحيدة في غربتها، لا اقارب، ولا أهل، فقد بقوا جميعاً في فلسطين بعد النكبة الكبرى، فتابعت مشوار حياة زوجها بتعليم أبنائها جميعاً، الى حين حصولهم على شهادات الدراسة الجامعية.
بقلم/ علي بدوان