الأخ خالد مشعل (أبو الوليد) هو أحد القيادات التاريخية لحركة حماس، وهو شخصية تتمتع بكاريزما عالية، وله تقدير كبير في الأوساط الإسلامية داخل الوطن وخارجه، ولقد تعاملت معه لسنوات عن قرب وفي مستويات قيادية متقدمة، وأشهد له أنه "نِعم القائد" و"نِعم الأخ والصديق"، وله منزلة خاصة في قلبي منذ أن تعارفنا تنظيمياً في مطلع الثمانينيات.
كان الأخ خالد، أبو الوليد، إلى جانب د. موسى أبو مرزوق من أفضل قيادات حركة حماس في الخارج، وكانا قد تركا بصمة وأثرا في حيوية الأداء، وفي حُسن السلوك والأخلاق والطهارة الحركية، وكانت دائرة المشورة لديهما تجرى بشكل جماعي، ونالا من خلالها احترام الجميع، بما في ذلك شخصيات اعتبارية عربية وإسلامية يُعتد بها وبالعمل معها.
بعد الانتخابات التنظيمية الأخيرة في حزيران 2017، والتي شابها الكثير من الملاحظات السلبية، فيما يتعلق بالمنظومة القيمية التي تربينا عليه منذ قرابة نصف قرن من العمل الإسلامي، تراجعت بسبب تلك الممارسات الخاطئة – في الحقيقة - مكانة بعض الوجوه التاريخية، من حيث القدرة والتأثير الحركي والسياسي، وظهرت وجوه أخرى سنترك للمستقبل فرصة تقييمها والحكم عليها، وإن كان المشهد الحركي لا يطرح تطمينات تبشر بأن من هم في الصدارة يمتلكون - بأيديهم وحناجرهم - طوق الخلاص؛ لأن أكثرهم بصراحة يفتقدون لمكانة ومفهوم "وجئت على قَدرٍ يا موسى"!! حيث تتحقق الزعامة والمثال، بكل ما يعنيه ذلك من مكانة الأسوة والقدوة الحسنة.
في المؤتمر الذي عقدته حركة حماس بعنوان "حماس في عامها الثلاثين... الواقع والمأمول" بتاريخ 18 ايلول2018، وهو ملتقى نخبوي حاشد يمثل فكرة طموحة تحتاج إلى التشجيع والتطوير، لتصبح إطاراً فاعلاً للمراجعات المطلوبة للإصلاح والتغيير داخل الحركة.. في هذا المؤتمر، تحدث عدد من قيادات الحركة، ولكن ما يهمني هنا في سياق القراءة والتحليل هو ما طرحه الأخ خالد (أبو الوليد)، حيث أوضح في كلمته المختصرة للمؤتمر قائلاً: نريد نقلة في مشروع المقاومة تختصر علينا الطريق، وتقرِّب إلينا الهدف.. وأن مسؤولية القيادات اليوم هي في البحث عن مخارج ابداعية للانقسام، والذي نتطلع لتجاوزه والإصرار على إنهائه.. وأضاف: لقد حاولنا، والموضوع شبه مقلق، ولا بدَّ أن ننجح في إنهاء الانقسام، وبناء وحدتنا الوطنية، وأن نعيد تعريف المشروع الوطني الفلسطيني، ونعيد بناءه.
وأوضح قائلاً: نريد أن نتحدث عن الواقع والمأمول، وأَختصر ذلك في عنوان عام، وهو في تقديري مسؤولية قيادة حماس والفصائل والأهليَّات الوازنة في الداخل الخارج، من حيث إبداع حلول للتحديات التالية:
أولا: صناعة نقلة كبرى في مشروع المقاومة والمواجهة مع الاحتلال على طريق التحرير.
ثانياً: إدارة استراتيجية دقيقة وفاعلة لأربعة ملفات، معركة القدس ومقدساتنا الإسلامية والمسيحية، معركة العودة للاجئين والنازحين، معركة مواجهة الاستيطان وسرقة الأرض، معركة تحرير الأسرى، نريد إدارة استراتيجية تحقق النصر.
ثالثاً: مسؤولية القيادات اليوم أن توجد مخرجاً إبداعياً للانقسام، مستندة إلى ثوابت شعبنا وحقوقه الوطنية، الانقسام مزمن ومشؤوم، نريد أن نتجاوز ذلك ونُصر على إنهائه.
رابعاً: مرتبط بتجديد الفكر السياسي الفلسطيني ليواكب تطورات الصراع ومستجداته، يحافظ على الأصول والثوابت ويشق الطريق إلى الأمام.
خامساً: الجرأة في التغيير والتجديد داخل الفصائل والقوى الفلسطينية، وتجديد دور شبابها، وتعزيز روح الديمقراطية الحقيقية داخلها، تخلصاً من خطر الشيخوخة.
سادساً: مرتبط بمضاعفة جهودنا من أجل استعادة قضيتنا وأولويتها عند الأمة.
سابعاً: مرتبط بإحداث اختراقات مؤثرة على المستوى الدولي وملاحقات أوسع لجرائم الاحتلال في العالم مع توسيع سياسة المقاطعة.
لا شك أن هذه لفتات مهمة تستحق التفكير وإعمال العقل من أجل تحقيقها.. ولكن السؤال الذي يحاصرنا دوماً: من هو الذي يمتلك - الآن - زمام المبادرة لوضع مثل هذه الأفكار موضع التنفيذ؟
هل حركة حماس في ظل ظروفها الصعبة، وخلافاتها الواسعة مع السلطة وفتح، لديها القدرة على العمل في إطار شراكة سياسية مع باقي فصائل العمل الوطني والكل الفلسطيني، بهدف إيجاد خارطة طريق للخروج من النفق المظلم الذي طال انتظار رؤية نهاية له؟
أم هي الفصائل التي تآكلت، وساهمنا جميعاً في إضعاف شوكتها، وكسر هيبتها؟! لم يعد هناك اليوم في الساحة من يمكننا التعلق بأهداب قيادته، أو الاعتماد على قدرات فعله.
حتى التيار الإصلاحي الذي استبشرنا خيراً في أن يكون له "سهم خير" لاستنقاذ الحالة الوطنية، تباينت المواقف حوله، ولم نمنحه الأريحية الكافية للعمل معنا في مشوارنا الطويل لإصلاح الداخل الفلسطيني؛ لأن هناك من يعترض، ولديه اعتبارات تمنع الانفتاح بالسعة المطلوبة للاحتضان والشراكة الوطنية!!
إن هناك الكثير من المطبَّات التي تعيق حالة الانسجام بين الكل الوطني، وقبل إطلاق الحبل على غاربه، وتعليل النفس بالآمال نرقبها، علينا أن ندرك أن بيتنا الداخلي بحاجة للترميم والإصلاح، وهذا يتطلب الكثير من العمل والتنازلات واحتواء الجميع ضمن البوتقة الوطنية، والتي يبدو حالياً أن مساحاتها لا تستوعب الجميع!!
إن ما تفضلت به – أخي أبا الوليد – في كلمتك للمؤتمر يأتي في سياق "التمني والتحلي" أكثر من حقيقة الوعي بحالة الواقع البائس الذي نحن فيه معيشياً وسياسياً وتنظيمياً، والذي أوصلناه بخلافاتنا وتنابذنا بالألقاب السيئة إلى الدرك الأسفل من التشرذم والانحطاط، وغدا خروجنا منه لنصل إلى ما تنادي به من حالة وطنية يستدعي أن تغيب وجوهاً من مشهد الحكم والسياسة كانت - للأسف - وراء كل ما لحق بساحتنا من أخطاء وخطايا، أوردتنا ومشروعنا الوطني مورد الهلاك.
يا أخ أبا الوليد.. إن حركة حماس مطلوب منها الكثير من المراجعات النقدية لتصويب المسار وإقناع الآخر؛ لأن العمل المشترك يتطلب الاتفاق بين الجميع على رؤية وطنية تمثل القاسم المشترك بين الكل الفلسطيني، وليس التعاطي مع الآخر بزي الأستاذية والقوامة الفكرية.
إن حركة حماس اليوم ليست هي حركة حماس قبل عقد أو يزيد من الزمن، حيث كان مشهدنا في السابق يشد الجميع باتجاه بوصلتنا، ولكننا - اليوم - لم نعد في نفس المكان من الخيرية والكمال.
إن حركة حماس كي تنجح في استجلاب الآخر والتعاقد معه، عليها أن توطن مفهوم الشراكة السياسية في ذهنية قياداتها وكوادرها؛ لأن ذلك هو حجر الزاوية و"مربط الفرس" في تحقيق الإجماع الوطني.
إن التحديات التي تعترض طريق الكثير من النقاط التي تفضلت بتقديمها – أخي أبا الوليد - هي إن حركة حماس لم تعد في الموقع الذي يجعل الآخرين يقبلون عليها؛ لأن هناك في تركيبتها البنيوية أكثر من خلل يستدعي المعالجة، وهذا لن يتحقق إصلاحه إلا بقيام مراجعات جادة لتصويب مسارات الرؤية وأسلوب العمل مع الآخر.
احترم مكانتك واجتهادك، ولكن ما تتطلع له ليس بمقدور حركة حماس أن تقوم به؛ لأن الإعياء أثقل كاهلها، وتداعى على قصعتها كل من يطلب الخلاص منها، وهي للأسف لم تحسن صنعاً يوم كان بإمكانها فعل ذلك.
نحن اليوم - أخي أبا الوليد - محشورون في الزاوية، وأيدينا مكبلة، وخياراتنا محدودة ومقيدة، ومساراتنا اضطرارية، ولن يكلف الله نفساً إلا وسعها.
آمل أن تأتينا حركة حماس بالمبادرات التي تسد باب الذرائع ولا تترك فرصة لتهرب الآخرين.
سعدنا بإطلالتك يا أبا الوليد.. ولكن الكرة اليوم هي في ملعب حماس، وعلينا أن نختار من يمثلنا في خط الهجوم كما الدفاع، حتى لا تترامى الأهداف تباعاً في شباكنا.
بقلم/ د. أحمد يوسف