الحبيبة الباقية ما بقيت الروح، أسعدت أوقاتا والأشواق ترقص في نظرة عينيك، أما بعد:
في مثل هذه الأيام من أيلول دخلنا "متاهتنا اللذيذة"، تلك التي أحببنا أن نسميها "الحبّ". إنها أكبر من هذا وذاك وكل ما مر بين عاشقين. فكل أيلول وأنت الحبّ الذي لا ينضب. سأتجاوز عما حدث في الرسالة السابقة من سوء الفهم، ولن أقف كثيرا عند تلك المعاتبات القاسية في رسائلك الغاضبة، فالأمر يحدث كثيرا بيننا، وبين غيرنا، فعادة المحبين ليست دائما كنهر رقراق، بل يشوبها أحيانا بعض الكدر الظريف الذي يضخ الدم في العروق، ويجدد الشوق، ويقدم أدلته على طريقته في المحبة الراسخة. ولتسمحي لي أن أعتذر لك على طريقتي.
أيتها الحبيبة التي أرى بعيونها، وأقرأ بأفكارها، وأتحسس وجودي على هدي من وجودها، إن طالعتُ صورتي في المرآة فلا أرى غير صورتك، وإن نظرت إلى السماء فلن أرى غير وجهك، ولو رقدت في فراشي فلن يزورني إلا طيفك، ولا يضحك لي من وجوه البشر سوى ملامح النور في فيض محبتك. فهل يعقل أن أكرهك كم ادعيت تجنيا، وربما، دلالا واستفزازا؟ إن فكرت بهذا فهذا قمة جنونك. والأشد جنونا من كل هذا قولك: "أعلم أنك أغلقت كل حساباتك في وجهي لتبقى صورة العاشق الضحية برسائلك، بينما أنت تعبث مع العابثات على حساباتك. كفاك وكن صادقا مع نفسك وانظر في المرآة". وها أنا أستجيب لطلبك وأنظر في المرآة.
كوني على ثقة أيتها المقيمة في حناياي أن الأخريات لا يعشن إلا على الضفاف، فليس مثلك في العالمين امرأة، وإن هذا لا يحتاج تأكيدا ولا تبريرا، فهو أرسخ في الروح والعقل من رسوخ الأصابع في راحة اليد.
قد تستغربين أنني سعيد برسائلك على الرغم من قسوتها، وقد دفعتني للبكاء، هل يوجد هذه الأيام رجل يبكي من العشق والشوق؟ لقد أبكتني رسائلك الأخيرة كما أبكتك رسائلي، وأعترف كذلك أنني سعيد بالكتابة إليك، فهي فسحة للروح لتشعر بالرضا في معمعة الحياة المجنونة، وأحمد لنفسي فعلها إذ كتبت الرسالة السابقة؛ إذ دفعتك للحديث بعد صمت طويل، ألم تفكري أنني ربما كنت أستفزك فيها؟ لقد أفلحت في ذلك، ولكن لا تعدي هذا لؤما، لقد أعمى عيوني صمتك وأفقدني البصيرة أيضا.
كان لتلك الرسالة وقع جميل، مهما قلت عنها أنها متجنية ومجافية لحقيقة نفسك، ولكنها كانت ضرورية، وضرورية جدا، ودعيني أحدثك عن مآلاتها. ثمة قراء يقرؤون رسائلنا بعيونهم وقلوبهم ويرون ما لم نر نحن، رأوا فيها الانتهازية والواقعية وفضح كثير من السلوكيات العامة والخاصة في التعامل مع المعاقين، فادعاء المثالية أمر لا يخفى؛ فكم من نبي في أقواله وهو بالفعل شيطان رجيم. هذا ما كنت أرمي إليه وأنا أكتب رسالتي الأخيرة، ليس ضعفا حديثي عن الإعاقة، أو استدرارا للعطف، بل على العكس تماما فإنني لم أشعر يوما أنني معاق أو محتاج لمساعدة من أحد، وعشت ما مر من حياتي كما لم يعش الأصحاء المعافون وحققت ما لم يحققوا، وعلى طول هذه السنوات كنت رافضا أن أكون عضوا في الاتحاد العام للمعاقين، لأنني لا أشعر بضرورة أن أتميز عن الأصحاء، وأنني أفضل من كثيرين منهم، ليس بسبب الإعاقة بالطبع ولكن لأسباب أخرى ليس للإعاقة دور فيها.
كانت فكرة في الذات، وأردت أن أبلغها للآخرين، ليلتفتوا إليها، ولعلني نجحت، مع أنك لم تتعاملي مع تلك الرسالة بإيجابيتك المعهودة، وأنا الذي أعرفك جيدا، وقد خبرتك على مدى سنوات. فجاء عتابك حاملا للشك وغارسا في القلب ألسنة من لهب، مع أن هذا العتاب أسعدني أيضاً على رأي من قال: "ولوْ مِنّكْ عتبْ جاني، سعيد الحظ تلقاني".
إن ما تحدثتُ به لا يحمل وجهة نظرك، ولكن هل سيتخذ القراء موقفا سلبيا منك بسبب تلك الرسالة؟ لا أظن أن ذلك سيحدث، فثمة أمور يحسن القراء التفريق بينها أيضا، ولأول مرة أراك منفعلة انفعالا في غير محله، وقد منعتني لأتحدث إليك عن أشياء أجمل من العتاب، لعلني في رسائلي القادمة أحدثك عما كنت أبغي الحديث عنه، وما زال أفكارا عائمة في بطن أجندتي السوداء.
أرجو أن تسامحيني إن زل القلم، أو شطح الفكر بعيدا، فسبب لك بعض الألم. وأخيرا أتعلمين ما هو أجمل ما حدث لي؟ أنك ارتبطت بي لما بعد انتهاء الحياة الدنيا، وسيظل القراء يقرؤون "الشاعر والجميلة".
أحبك حتى آخر العمر، ودمت الضياء الذي يغمر كياني كله. المشتاق لقبلة ثغرك...
الجمعة: 21/9/2018
فراس حج محمد