التهويد العمراني - الحضاري للقدس

بقلم: عبد الحميد الهمشري

التاريخ يتحدث والمعالم الحضارية والعمرانية تثبت أن للقدس خصوصيتها ورونقها الحضاري والعمراني العربي إسلامياً ومسيحياً ، فجوامع المدينة ابتداء من المسجد الأقصى المبارك (قبلة المسلمين الأولى) فقبة الصخرة، المساجد وعددها يفوق المائة ، الزوايا، التكايا، الأربطة، السور المحيط بالمدينة، الأبراج، الأبواب المفتوحة، المآذن والقبب .. الخ، تؤكد بشكل قاطع بتلازم الشكل الهندسي المعماري للجامع الإسلامي ووظيفته الاجتماعية والتربوية.
وخصوصيتها المسيحية منذ ظهور السيد المسيح عليه السلام حولتها تاريخيًا لمزار للحج المسيحي، رغبة في اقتفاء أثر المسيح عبر مقامات العالم المسيحي المقدّسة التي منها: كنيسة القبر المقدس، علية العشاء السري، كنيسة القديسة حنّة، قبر مريم العذارء، الحديقة الجثمانية (التي أعتقل فيها المسيح)، محبسة الصعود وجبل الزيتون.
وبما أن الهيئات الإسرائيلية من حكومية ومدنية تدرك أهمية الخاصية المعمارية – الأركيولوجية للقدس كحجة تاريخية تدحض ادعاءاتها تجاه "يهودية" المدينة الدينية والتاريخية" فقد دأبت منذ احتلال المدينة في حربي 1948 و1967على إعداد مخططات هيكلية كفيلة بتهويد المدينة عبر إنتاج فضاء تركيبي جديد لها يلغي هويتها التاريخية العربية الإسلامية المسيحية ويحوِلها لمدينة مهوَّدة معماريًا وحضاريًا وتمثلت استراتيجية الجرف التاريخي للقدس بلجوء الحكومات الصهيونية المتعاقبة لاعتماد مخطط التهويد الفضائي للمدينة من خلال تغيير وطمس معالم الفضاء العربي – الإسلامي الذي طبع المدينة بطابعه المعماري والثقافي والحضاري وصولاً لتلبيسها فضاءً غربيًا يلغي معالمها الأركيولوجية ويجعلها معلمًاً مختلفًا كليًا بإبراز الطابع اليهودي الغربي الوافد إلى المدينة..
وجرى ذلك عبر مرحلتين من التخطيط الغريب المرحلة الأولى في ظل الانتداب البريطاني (1920- 1948) والتي كانت بمنزلة مرحلة تأسيسية أو بالأحرى تمهيدية لمرحلة التخطيط الصهيوني الذي بدأ مع احتلال المدينة العامين 1948 و1967. وخلال هاتين المرحلتين تمّ "إحداث قطع في تواصل تطور المدينة التدريجي والإنسيابي الذي تميّزت به بعد انهيار الحكم الصليبي لها" .واستعادتها العربية على يد صلاح الدين الأيوبي بعد انتصاره الحاسم على الصليبيين في موقعة حطين العام 1187 م.
في عام 1972 وضعت إسرائيل خطة متكاملة تحت إسم "خطة التنمية الخاصة" لإعادة تخطيط المدينة المقدّسة وبما يتلاءم مع إضفاء الطابع اليهودي عليها بعد طمس معالمها المعمارية والطوبوغرافية والجغرافية والديموغرافية وصولاً إلى معالمها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فالهدف المركزي لاستراتيجية تهويد المدينة تمثل بإلغاء طابعها الحضاري الشامل وإضفاء طابع الحضارة الصهيونية – الغربية مكانه في سبيل تدعيم وجهة النظر الإسرائيلية في خلق تاريخ مزيَّف لليهود.
حيث باشرت السلطات العسكرية الإسرائيلية ذلك عقب احتلال المدينة هدم أحياء عربية في البلدة القديمة كحي المغاربة الذي أزيلت معالمه ليحل مكانه الحي اليهودي كبديل معماري – أركيولوجي ينسجم مع أركيولوجية التهويد الصهيونية المعتمدة ليس للقدس وحدها بل لسائر فلسطين التاريخية كذلك.
التغييرات التي فرضتها السلطات الإسرائيلية طالت الأوقاف الإسلامية والمسيحية فالحفريات بحثًا عن هيكل مزعوم، وأعمال الهدم المستمرة لمعالم وقفية من جوامع ومقامات وكنائس ومدارس وبيوت أثرية قديمة الهدف منها هدف لاقتلاع خصوصية المدينة الحضارية العربية الإسلامية وجرفها، واصطناع معالم حضارية غريبة ودخيلة مكانها حيث أقيمت داخل أسوار المدينة أديرة وكنس ومدارس وبيوت سكن في الزاوية الجنوبية الغربية من البلدة القديمة ، كل ذلك كان يسير في سياق استراتيجية التهويد الصهيونية للقدس لتحقيق غلبة واضحة للعنصر اليهودي حتى تجاوز ثلثي مجموع عدد السكان فيها،وإلحاق نشاطات المؤسسات العربية الاجتماعية والثقافية والسكان بالمؤسسات اليهودية في غرب المدينة إلى جانب تهويد الفضاء التركيبي لها،. ما أثار مخاوف وقلق الهيئات والمؤسسات المعنية بالتراث الإنساني الرفض السافر لإسرائيل في استجابتها للإرادة الدولية ما دفع مؤتمر اليونسكو لإصدار 13 قرارًا ومجلسه التنفيذي 26 قرارًا خلال فترة أربع سنوات (1987 - 1991) تدين جميعها عبث إسرائيل في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة، وتدعوها للتوقف عن نشاطها العابث.
وأمام تعنت إسرائيل وضربها بعرض الحائط الإرادة الدولية أدرجت تلك المنظمة الدولية البلدة القديمة (التاريخية) وسورها العام 1981 على قائمة التراث العالمي وأضافت القدس في العام 1982 إلى قائمة التراث المهدد بالخطر في ظل معارضة صهيو أمريكية فاضحة.

* عبدالحميد الهمشري - كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني
Aabuzaher_2006 @yahoo .com