وقفت لدقائق أتأمل ابنتي يافا وهي ترتدي مريول مدرسة وكالة الغوث ذا الخطوط الزرقاء. المريول ذاته الذي لبسته كل فتيات المخيم طوال العقود السبعة الماضية من وجود المخيم بعد النكبة.
الزي الموحد الذي كان مفروضاً على كل مدارس الإناث في المخيم. صحيح أنه كان علينا نحن الفتيان أن نلبس البلوزة الزرقاء الخفيفة لكنها لم تكن تعطي نفس الإحساس الذي يعطيه مشهد فتيات المخيم وهن يخرجن من المدرسة بالمراييل ذات الخطوط الزرقاء الطولية.
من المؤكد أن لكل مدرسة ولكل مؤسسة تعليمية دون المستوى الجامعي زيها الموحد، وربما يختلف الأمر من بلد لآخر وأيضاً من مدرسة إلى أخرى.
لكن لا يزال مريول مدرسة وكالة الغوث إشارة إلى شيء آخر في الوعي. إنها دلالة أخرى من دلالات اللجوء في وعينا نحن الذين ولدنا وتربينا وعشنا في المخيم. إنه إشارة أخرى إلى الفكرة الأبدية التي تحكم مستقبلنا وفكرتنا عن وجودنا.
يصف غسان كنفاني ببراعة في مجموعته "أرض البرتقال الحزين" حالة التحول إلى لجوء بعد اكتمال الخروج من الأرض وفجأة يقول بعد وصف طويل وحزين ومرهق للروح وللذاكرة: وفي الصباح أصبحنا لاجئين. قبل المغيب كنا نعيش في أرضنا بسلام وهناء وحلم عن المستقبل، ثم أتت النكبة وحملتنا مثل عوليس في بحر مضطرب من التيه، كابدنا ما كابدنا وعانينا ما عانيا، ثم حين أشرقت الشمس صرنا لاجئين.
أشياء كثيرة ترتبط في وعينا بحياتنا في المخيم. منها مثلاً، كما يتذكر كل من عاش في المخيم. "الطعمة" وكرت الطعمة المشهور الذي كان يؤهلنا لأن نتناول الوجبات الدسمة كل يوم خلال الدوام المدرسي في "الفورسة" أو قبل الدوام وبعده مجاناً.
كانت الطعمة تشكل مطعم المخيم وكان أكلها لذيذاً إلا زيت السمك الذي كنا نكره أن نشربه رغم فوائده الصحية.
الآن اختفت الطعمة من المخيم ولم يعد هناك لها أي أثر. حتى المكان المعهود لوجودها حيث كانت الناس تشير للحارة أو للشارع بوجودها: شارع الطعمة، حارة الطعمة، لم يعد موجوداً ولم يعد جزءاً من ذاكرة الناس ومسرودهم اليومي.
اختفت الطعمة وظلت مجرد ذكريات عن أشياء من الماضي. في البداية تم تقليص عدد المستفيدين من الطعمة حتى بات في مرحلة معينة فقط المحظوظون الذين ينعمون بالكرت.
ولم أكن في مرحلة معينة جزءاً من هؤلاء المحظوظين وكنت أنظر بغيرة إلى أترابي وهم يشهرون كروت الطعمة يتباهون وهم ذاهبون للطعمة أو عائدون منها.
وفي مرات أقوم كما يفعل غيري بدفع مصروفنا اليومي لأحدهم حتى نستخدم كرته وننال وجبته في الطعمة.
الآن لم يعد من وجود للكرت ولا للطعمة ولا أحد يستفيد من تلك الخدمة التي كانت جزءاً مهماً من ثقافة المخيم، وكانت تصنع تلك البسمة على وجوهنا رغم قسوة الحياة.
قريب من السابق مركز التموين. لم يرتبط شيء بالمخيم أكثر من ارتباط اللجوء بكرت التموين. بل إن الاحتجاج على حالة اللجوء كان يتم بالتعبير برفض كرت التموين، واستخدمت مثل تلك الشعارات التي ترفض الواقع الذي أفرزته النكبة برفض كرت التموين.
وربما أن الصورة الأكثر رسوخاً عن اللجوء بجانب الخروج القسري وجنود العصابات الصهيونية وهم يقتلون الأطفال ويبقرون بطون الحوامل، أو يدفعون بأعقاب بنادقهم المواطنين العزل وهم يسيرون حفاة في طريق التيه الجديد، هي صورة المئات وهم يصفقون أمام مراكز التموين ليتلقوا الإعاشة.
ولقد حفل الأدب الفلسطيني بالصورة المؤلمة والحكايات القاسية عن تلك اللحظات التي كان يتم فيها الوقوف لساعات من أجل الرغيف والعدس والسكر وصرة الملابس.
ولابد أن صرة الملابس تعني الكثير لكل ذلك الجيل الذي عاش أيام البؤس الأولى حتى أواخر السبعينيات.
الصرة التي كانت تلتف حولها الأسرة وتوزع محتوياتها بفرح. وثمة مشاهد يمكن استعادتها بألم، ولكن إنه الألم الذي يحمل شغف الفرحة المفقودة.
لحظة الفرح التي تأتي رغم كل حلكة الليل. أيضاً يكاد يختفي مركز التموين الذي كانت تخرج الجموع تلعنه لأنه الإشارة الدامغة على اللجوء.
لم تعد الاستفادة من التموين مفتوحة لجميع أبناء المخيم. يوم التموين يوم مشهود في المخيم. أتذكر كيف كنا نقف حين يصلنا الدور داخل المبنى المسقوف بالقرميد أمام كل زاوية منه: براميل الزبدة برائحتها التي هي ألذ في رائحتها بالنسبة لنا من كل ما جادت به مصانع العالم. يغرف الرجل بمغرفة كبيرة ويدلق في صحننا. ثم في المكان المجاور رجل العدس ورجل الفول، والحليب وأشياء كثيرة وصولاً في نهاية خط السير الطويل إلى رجل الطحين.
وكانت والدتي وهي حامل تحصل مثل كل نساء المخيم على "شرحات" وهي بطاقة خاصة للحوامل تحصل بموجبها على طحين وبعض المونة حتى تتغذي أكثر خلال الحمل.كل هذا اختفي.
وأيضاً مركز التموين سيظل أهم مكان في المخيم. المعلم الأساس في المخيم بجانب موتور المياه ومدارس الوكالة والعيادة. وبعد ذلك نادي الخدمات أو ما يعرف بالنادي.
وكل هذه الإشارات الأربع مرتبطة بوكالة الغوث، إنها مرتبطة بالواقع الأليم الذي أفرزته النكبة وبقهر.
والكثير من تلك الخدمات اختفت بفعل تقليص وكالة الغوث لخدماتها ليتضح لنا أن مثل هذا التقليص ليس عفوياً بل كان مدروساً على مدار السنوات والعقود الماضية حتى يتم تفكيك الوكالة وتحويلنا مثل اللاجئين من حروب الكوكايين أو الحروب الأهلية إلى مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة.
لم نصبح لاجئين بمحض إرادتنا. ولم أكن لو كان الزمن غير الزمن أريد لطفلتي يافا أن تلبس المريول ذا الخطوط الزرقاء. لكننا تم تحويلنا للاجئين بتواطؤ المجتمع الدولي. ووجود الوكالة ليس منة منه. وحتى لا يضيع مريول يافا كما ضاعت الطعمة وكما ضاع مركز التموين يجب النضال من أجل بقاء الوكالة.
بقلم/ عاطف أبو سيف