يأتي هذا المقال ضمن هذا المسار المعرفي الذي قطعنا فيه شوطا من التأصيل حول طريق المعرفة والتفكير الناقد، وعدم اليقين في المخرجات العلمية مثل التصور العلمي للتركيب الذري، وحول تسرّب الخزعبلات العلمية عبر العلوم الزائفة، وبعدما بّينا أن البشر يتبادلون مجمل المعارف عن طريق الرواية: لا فرق في مبدأ الرواية ما بين المعرفة الناشئة أساسا عن البحث العلمي أو تلك المستمّدة من الوحي أو التي تولدت من تجارب الشعوب وثقافاتهم... وقد قلنا أن الرواية الدينية قد طورت علم الرواة، وعلم "الجرح والتعديل" الذي يتحقق من عدالة الراوي وضبطه لما يروي، إلا أن الرواية العلمية ظلّت بعيدة عن معنى التحقق من صدقها في كثير من الأحيان! بل صار استنادها للبحث العلمي والتطور التكنولوجي (أو التصاقها بذلك) مبررا لقبولها من قبل الناس دون تردد، حتى ولو كانت رواية صاعقة للعقل مثل الغزوة الأمريكية للقمر.
تلك الرواية الأمريكية هي لحظة فاصلة في تحديد موقف التكذيب أو التصديق بالإجابات العلمية للأسئلة الوجودية حول أصل الكون والوجود والحياة، إذ هي فاتحةٌ لما بعدها من روايات غزو الفضاء، ومن حَكَوات الرحلات السابحة في الفراغ الكوني، مما سنتناوله في حلقات لاحقة ضمن هذا المسار المعرفي... ومن هنا، تبرز الأهمية الفكرية في بحث تلك الغزوة الأمريكية... إذ هي الخطوة الأولى في مسيرة الخزعبلات العلمية.
قبل عشرين عاما سألني أحد طلبتي في الهندسة الميكانيكية، هل تصدّق أن تكنولوجيا المحركات التي تمثّلت في السيارات التي نعاينها في "مديلات السيتينات" كانت تكشف عن تقدم علمي يوفر للأمريكان تكنولوجيا الصواريخ التي تمكنهم من الوصول إلى سطح القمر؟ بل والعودة منه!
في الحقيقة، كان سؤالا جوهريا في مُجمله، وكان يجب أن يُثيرني نحو مزيد من البحث في حينه، لكنّي كنت أعيش داخل "الصندوق" العلمي، وكنتُ أتقبّل تلك الرواية العلمية (الغربية) دون تردد، بل دون تحقق! فلم أتحرّك بما يكفي للتفاعل معه أو لمحاولة التحقق من صدق الأمريكان، رغم أنّي تلقيت ذلك السؤال بانفتاح، وبقيت أذكره كمثال في كثير من محاضراتي حول البحث العلمي.
ثم قبل أشهر قليلة، تابعت حلقات من برنامج رحلة في الذاكرة(1) على فضائية روسيا اليوم، استضافت ألكساندر بوبوف، العالم الروسي والباحث في تاريخ المشاريع الفضائية الدولية، وقد فنّد الأدلة التي تُبين بطلان الرواية الأمريكية حول غزوة القمر، ضمن 3 حلقات في آذار ونيسان، ثم أتبعتها الفضائية بحلقات جديدة في حزيران الماضي، تابعتْ فيها كشف دلائل وصور التقاط السفن الروسية لمركبة أبولو من البحر.
يمكن للقارئ الذي لا يفكّر أن يخرج من الصندوق أن يغلق عينيه وأن يصمّ أذنيه وأن يقول في نفسه: الأمريكان أصدق إنباءً من الروس، وأن الراوي الأمريكي ثقة عدْلٌ ضابط، وخصوصا أن الأمريكان نقلوا صورا لذلك المشهد الأسطوري، أمّا الروس الذين يشككون بالرواية العلمية الأمريكية فمدفوعون بأجندات سياسية، ثم ينتهي الموضوع لديه بتجديد الإيمان والتسليم بتلك الرواية الأمريكية، ويبقى مطمئنا إلى معلوماته التي يظنّها حقائق علمية.
ثمّ يُمكن للقارئ "المؤمن" بالرواية الأمريكية أن يُكرر الأمر ذاته كردة فعل على ما تناقلته مصادر أمريكية (من داخل البيت نفسه) من إنكار الهبوط على سطح القمر، حتّى منذ السنوات الأولى التي أعقبت ذلك الحدث المدّعى عبر الصحف الأمريكية ذاتها، ومنها نيويورك تايمز التي نقلت عن مصدر من ناسا من أن الأمريكيين لم يذهبوا للقمر، ثم يمكنُ له أن يردّ ما ورد في كتاب (لم نذهب إلى سطح القمر إطلاقا) لمؤلفه بيل كايسينغ(2)، ثم ما تلاه من كتب أخرى ناقشت هذا الشأن من مثل كتاب ستيف ثوماس (خدعة الهبوط على القمر: النسر الذي لم يهبط)(3)، وأخيرا يمكن له أن يشكك بما يُنقل عن المستشار العلمي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب من إنكار لمسألة الهبوط، كما وثّق برنامج رحلة في الذاكرة. ويصر على التصديق بالرواية الأمريكية الرسمية وحدها، التي يجعلها لا يمكن أن تنطق عن الهوى!!!
ويمكن للقارئ المؤمن بالهبوط الأسطوري أن يدفع عنه التشويش على صفاء عقيدته العلمية تحت وقع دلائل الإنكار الصارخة، وتعدد أطرافها، بأن هؤلاء الكتّاب الأمريكان والعلماء الروس يهرفون بما لا يعرفون، وأنهم مكبلّون بنظرية المؤامرة... ثم بعد ذلك كلّه، لن يكترث بما تنقل بعض التسجيلات المنتشرة على اليوتيوب(4) عن رفض رواد الفضاء الأمريكان القسم على الإنجيل على أنهم هبطوا على سطح القمر فعلا.
ماذا يمكن حينها أن يوقظ القارئ المؤمن بالهبوط الأمريكي من سكرة ذلك الموقف "العَقَدي!" ومن خطورة الخشوع العلمي أمام ذلك التسليم بما تدّعيه وكالة الفضاء الأمريكية-ناسا؟! وكيف يمكن له أن يتحرر من سطوة العِلم الأمريكي أو أن يحاول التحرر من ذلك الصندوق العلمي؟
هنا لا بد من وقفة علمية وسياسية وفكرية:
كان بعض العلماء ينتقدون نهج ذلك التفكير الناقد، الذي يشكك بمسألة هبوط الأمريكان على سطح القمر من باب أن الأمر لو كان خديعة لما سكت الروس المنافسون على المصالح السياسية على تلك "الرواية" الأمريكية! هذه المجادلة -نيابة عن الأمريكان- قد نُسفت بعدما صدع الروس عبر فضائيتهم الرسمية (روسيا اليوم) بأن الأمريكان لم يهبطوا على سطح القمر، وبعدما عرضوا أدلة علمية وبعدما كشفوا الخبايا السياسية، وبيّنوا سبب صمتهم في تلك المرحلة:
فقد تحدث الروس عن عملية "أوكيان" الروسية العسكرية البحرية، التي حصلوا من خلالها على أدلة مادية تبطل الرواية الأمريكية، تمثلت في انتشال الكبسولة الأمريكية التي ادّعى الأمريكان أنها هبطت على القمر من البحر، وعرضوا صور تسلم مركبة أبلو من قبل الأمريكان، تلك التي التقطها الهنغاريون، ونشروا ذلك في كتاب عام 1980. ثم أكدوا أن الصواريخ الأمريكية لم تخرج للفضاء أبدا بل سقطت في البحر، في جزر الأزور، حيث تكثر القواعد العسكرية، التي سُخّرت في التكتم عليها، كما بثّوا ضمن حلقة بعنوان "كيف كشف السوفيت الخديعة القمرية الأمريكية؟ مواد خطيرة تظهر للعلن لأول مرة" بتاريخ 13/6/2018.
ثم رَبَط البرنامج الروسي موضوع صمت السوفييت بما تلقوه من مكافآت صناعية وميزات اقتصادية من الأمريكان نهاية عقد الستينات ومطلع السبعينات، بما وُصف بصفقة القرن، كما جاء في عنوان الحلقة: "صفقة القرن أو ما الذي حصل عليه السوفيت مقابل السكوت عن الخديعة القمرية الأمريكية؟" بتاريخ 20/6/2018... ثم بيّن البرنامج ممارسة المكتب السياسي السوفييتي القمع ضد علماء الفضاء وتسريح المتشككين من برنامج الفضاء الروسي... (وعلى هامش هذا المقال، ثمة دعوة لإعادة النظر إلى بعض ما صدر من تحليلات سياسية خلال السبعينات من القرن الماضي، حاولت تفسير انفراج العلاقات السياسية بين الروس والأمريكان، في ضوء هذا الكشف).
إذن، بكل تأكيد نحن أمام روايتين "علميتين!": واحدة لوكالة الفضاء الأمريكية، والأخرى للروس... وقد جاءت الرواية الأمريكية أقرب للخيال العلمي وبلا أدلة حقيقية، أما الرواية الروسية فقد استندت للتفكير الناقد، وفندت علميا ما ادعاه الأمريكان... ثم تضافرت الإنكار الروسي، مع إنكار عدد من الجهات الأمريكية التي تكذّب ناسا في ادعائها، بل تكشف مصادر الخداع بناء على أسس علمية، ووصل الحد إلى أن انتشر تسجيل لمخرج سينمائي شهير يقول فيه قُبيل وفاته أنه هو من أنتج فيلم الهبوط على القمر كأكبر كذبة في تاريخ العلوم، (وطبعا لا يمكن الجزم بصحة ذلك التسجيل)(5).
وعلى أقل تقدير، فأمام تناقض الروايات العلمية والجدل حولها، لا يمكن أن تكون مسألة هبوط الأمريكان على سطح القمر حقيقة علمية، إذ من ثوابت ومعايير الحقيقة أنها لا تخضع للجدل! بينما نحن هنا أمام جدل حاد في الموضوع، ولذلك فليس غريبا أن ينكر الفرد العادي استحالة ذلك الحدث الأسطوري... وإن من الواجب الفكري على العلماء أن يشككوا بالراوية على أقل تقدير، لعل الشك يثيرهم للتفكير الناقد الذي يقود لمرحلة التكذيب... وفي طريق الحسم لهذا الأمر نتابع في حلقة قادمة إن شاء الله ذكر الأدلة العلمية حول الموضوع، ومن ثم نفتح باب التشكيك فيما تبع ذلك التحليق الأسطوري وما بني عليه من أساطير كونية وفلكية.
بقلم/ ماهر الجعبري