مضى على وثيقة حماس السياسية الجديدة قرابة العام ونصف العام، ولا يبدو هناك في الأفق أية مؤشرات تفيد بأن العالم فهم الرسالة، وأدرك حجم التحولات في الفكر الإسلامي جهة النظر إلى اليهود بشكل عام.
إن من الأشياء التي لا يعرفها ربما الكثيرون في الغرب، أن منشأ كل هذا العداء المخزون في الذاكرة والمعتقد الإسلامي ضد اليهود تعود أصوله إلى الهجمة الصهيونية على مقدسات المسلمين في فلسطين، والتي شكلت شخصيات يهودية عالمية أبعادها الدينية والسياسية لتحريك يهود أوروبا إلى الهجرة والاستيطان في تلك البقعة المباركة من أرض الإسراء والمعراج، ضاربة عرض الحائط بمشاعر الفلسطينيين والعرب والمسلمين في كل مكان.
لم يلق الاستيطان اليهودي بأبعاده الدينية مباركة كل يهود العالم، بل هناك من تصدى لهذا الفكر الصهيوني من بين التجمعات والطوائف اليهودية، والتي رأت أن هذا الاستيطان وفكرة الدولة اليهودية مخالف لتعاليم الرب، وأنه وبحسب الشريعة اليهودية فهذا أمر محرَّم، وكان من بين هؤلاء حركة "ناطوري كارتا"، والتي تعرَّض المئات من حاخاماتها إلى تصفيات كبيرة من قبل الحركة الصهيونية، عبر الوشاية بأنهم عملاء لروسيا، فكان أن استهدفتهم أجهزة الأمن الألمانية في عشرينيات القرن الماضي، وضاعت أسماؤهم ضمن القوائم التي تشكل ما يسمى بالمذبحة اليهودية (الهولوكوست).
خلال سنوات إقامتي في أمريكا لقرابة العقدين من الزمن، شعرت بأن هناك تباينات كبيرة بين يهود أمريكا عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، فهناك "نعم" داعمون لإسرائيل ممن تشربوا الفكر الصهيوني، وعاشوا يدافعون عنه ويدعمونه، من خلال اللوبيات ومجموعات الضغط السياسي مثل "إيباك"، ولكن هناك أيضاً من بين اليهود الإصلاحيين أكثر من هؤلاء، وكانت لهم مواقف تصدوا فيها للفكر الصهيوني بأبعاده الدينية وممارسته اللاإنسانية.
حماس واليهود: الرؤية والموقف
لا ينكر أحد أن أرض فلسطين هي الحاضنة التاريخية للديانات السماوية الثلاث؛ اليهودية والمسيحية والإسلامية، وأن على هذه الأرض "أمة من الناس" تعود أصولها إلى هذه الأرض المباركة.. فهناك جذور لكل هذه الملل والنِحل من أبناء هذه البلاد.
كما أن كل من يقرأ التاريخ والأنثروبولوجيا يعلم أن هذه الأرض كانت عربية منذ خمس آلاف سنة، ثم حفر الآخرون تاريخهم بعد ذلك.
نحن كفلسطينيين وإسلاميين قلنا إن خلافنا ليس مع اليهود واليهودية، بل هو مع الحركة الصهيونية وتطلعاتها الاستعمارية ومشروعها الاستيطاني الإحلالي، وتنكرها للمأساة التي لحقت بالفلسطينيين جراء النكبة عام 1948، والتجني بإنكار حقوقهم التاريخية، والعمل على شطب قضيتهم من الوجود.
إن اليهود حول العالم هم أقليات تتوزع بين أمريكا وأوروبا وبعض الدول العربية، وقد تلاعبت بعقولهم الحركة الصهيونية منذ نهايات القرن التاسع عشر، وأوهمتهم أن فلسطين هي "أرض الميعاد"، فشدَّ بعضهم الرحال إليها؛ باعتبارها أرض بلا شعب لهؤلاء اليهود الذين لا أرض لهم!!
في الخمسينيات، قام الصهاينة بتحريض يهود الدول العربية للهجرة إلى إسرائيل؛ باعتبار أن وجودهم بين الغالبية المسلمة يتهدده الخطر، وحركوا لذلك عملاءهم في العراق ودول المغرب العربي لافتعال أعمال عنف ضد أبناء الطائفة اليهودية، للتعجيل برحيلهم عن البلاد التي عاشوا فيها مئات السنين بأمن وأمان.
لا شك أن ماكينة الدعاية الصهيونية مع ما تروجه المسيحية المتصهينة في سياقات دينية، أسهمت في عملية غسيل الدماغ لهذه الأقليات اليهودية في أوروبا وأمريكا، وأوجدت حالة من التعاطف مع المشروع الصهيوني بشكل عام في الغرب، وهو ما نشاهده من مواقف لكثير من هؤلاء اليهود المخدوعين، والذي ترتب عليه أنهم أصبحوا شركاء في الجرائم والمجازر التي ترتكبها إسرائيل – ظلماً وعدواناً - بحق الفلسطينيين.
أعتقد أنه آن الأوان أن تنفتح حركة حماس على هذه التجمعات اليهودية حول العالم، لتحاورهم وتقدم لهم حقائق الصراع في كل ما جرى للفلسطينيين من مظلومية، وتدحض الرواية التي يتم تسويقها عليهم حول المقاومة الفلسطينية بأنها "تطرف وإرهاب" من ناحية، وأن الفلسطينيين يرفضون السلام ونحو ذلك من ناحية أخرى.
لقد أوضحت حركة حماس موقفها بشكل صريح في ورقتها السياسية الجديدة، وأزالت الالتباس الذي وقع في فهم هذه المسألة في ميثاق 88، والذي استغلته إسرائيل والحركة الصهيونية في تشويه صورة حماس كحركة تحرر وطني، واتهامها بالعنصرية ومعادات السامية.
لقد أبرزت الوثيقة الجديدة لحركة حماس أن الحركة تميز بين اليهودية كديانة وبين المشروع الصهيوني كرؤية استعمارية، وأكدت أن صراعها هو مع المشروع الصهيوني المحتل وليس مع اليهود بسبب ديانتهم، وانطلقت إلى قولها بأنها ترى أن المشكلة اليهودية والعداء للسامية واضطهاد اليهود ظواهر ارتبطت أساساً بالتاريخ الأوروبي، وليس للإسلام والمسلمين علاقة بما يسمى بـ"المسألة اليهودية".
من الجدير ذكره، أن المسلمين تاريخياً كانوا هم من منحوا الأقليات اليهودية الأمن والأمان، وكان هذا الاحتضان بمثابة درع الحماية لهم ولديانتهم من الاندثار، وقد تناول هذا التاريخ المحامي الأمريكي "إدوارد ميلر"؛ وهو شخصية يهودية محافظة، في كتابه المتميز "رؤية إبراهيم: قصص متشابكة من الإسلام واليهودية"، والتي أنصف فيها مواقف المسلمين ودورهم في حماية الأقلية اليهودية من الاضطهاد خلال "محاكم التفتيش" في القرن الخامس عشر بالأندلس، وكذلك عمليات الإبادة (الهولوكوست) في أوروبا إبَّان الحرب العالمية الأولى، حيث فتحت الدولة العثمانية أبوابها مشرعة لهجرة الكثير منهم إلى ممالكها الإسلامية في فلسطين وشمال أفريقيا.
في الحقيقة، كان هذا الكتاب هو بمثابة الدليل والبرهان - وشهد شاهد من أهلها - لفضل المسلمين تاريخياً على اليهود واليهودية.
لقد آن الأوان لإزالة الغشاوة عن عيون الملايين من يهود أوروبا وأمريكا، وإخراجهم من نير الرواية الصهيونية.. فالفلسطينيون يتطلعون إلى العيش الكريم في أرض الآباء والأجداد، ولهم رؤيتهم في إنهاء هذا الصراع برد الحقوق إلى أهلها، والانفتاح على كل ما يشكل أمناً واستقراراً وازدهاراً لكل مواطني هذه الأرض المباركة، وذلك في صياغات تتناولها أفكار ومقترحات النخب الفلسطينية؛ كالدولة الواحدة أو الدولة ثنائية القومية.
ختاماً.. لا بدَّ من الانفتاح
إن هناك أطرافاً دولية ومؤسسات حقوقية كثيرة في الغرب يمكنها أن تلعب دور الوسيط لكسر حاجز التوجس والدخول على خط التواصل مع يهود العالم، والعمل على تعرية الخطاب الصهيوني، الذي تتلخص روايته اليوم بشيطنة حركة حماس واتهامها بالتطرف والإرهاب.
باختصار: إن حركة حماس ومن خلال رؤيتها السياسية قد أوضحت بأنها حركة تحرر وطني، وأن صراعها يتمحور حول مواجهة المشروع الصهيوني الغاصب، بهدف ردِّ الحقوق إلى أهلها، وليس مع اليهود أو اليهودية.
بقلم: الدكتور أحمد يوسف