عدت إلى إيطاليا بعد اثنتي عشرة سنة من تخرجي من هناك وحصولي على شهادة الدكتوراه بدعوة من مجلة "انترناشونال" التي تنظم أضخم مهرجان أدبي وثقافي وصحافي في إيطاليا.
بدايات الأشياء تتشابه وربما أن الذاكرة تلجأ عادة إلى نسج وهمها الخاص من أجل استقرارها فتنسج ترابطات وتخلق تداعيات توقعنا في وهم المضايقات اللحظية فيتداخل الزمن. شيء من هذا نسميه الحنين. انه لحظة فقدان هذا التوازن بين اللحظة التي تمر بها وتلك التي نشتهيها.
كنت أتخيل نفسي حين وطئت قدماي إيطاليا العام ٢٠٠٢. كانت الانتفاضة الثانية في أوجها. ومعبر رفح لا يفتح إلا بالصدفة ويستغرقك الأمر أياما وانت تنتظر من أجل أن تصل البوابة. وفشلت أكثر من أربع مرات في مغادرة المعبر حتى تمكنت بعد شهر من موعد وصولي الأصلي من عبور البوابة. حتى حين أعود بالذاكرة إلى أيام الدراسة في بيرزيت التي بدأت مع العقد الأخير من القرن الماضي لم يكن الحال أكثر سهولة. كنت امضي أسابيع في انتظار التصريح ثم تصريح المبيت وقبل كل شيء الكرت الممغنطة. وكل مرة تكون تحت سياط الخوف أن يتم رفض منحك أيا من هذه.
جزء أساس من تعامل الصهيونية مع الشعب الفلسطيني هو العزل والحصار والعيش خلف السياج والجدران. المعازل والكانتونات صور كبيرة للزنازين التي وجدت ليس من أجل العقاب بل لأجل الحد من النضال والقتال ضد السياسات المتبعة.
ما أقصده أن الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني منذ المعازل التي أقيمت حول ما تبقى من الأحياء العربية في المدن الكبرى خاصة يافا عقب النكبة حتى حصار القرى بالجدار الذي يلتف حولها مثل ثعبان يتم وصولا إلى حصار قطاع غزة فكرة مستمرة وان بأشكال وترجمات ميدانية مختلفة. وعليه حتى في الخطاب السياسي يجب تأسيس الموقف بناء على هذا الفهم الجمعي الموحد للألم إذا اردنا أن نحافظ على وحدة المصير.
هواجس وأفكار كثيرة عصفت بعقلي وان اعبر الرحلة الطويلة من غزة إلى إيطاليا والتي استغرقت ٣٥ ساعة وتأخرت يومين قبل أن أتمكن من القيام بها. في عمان أمضيت قسطا من الليل وهو الوقت المستقطع المتوفر لدي بين وصولي عمان ومغادرتها بعد ساعات مع الصديق الناشر أحمد أبو طوق على هامش معرض عمان الدولي للكتاب. حوار ونقاش مع احمد وصبحي حديدي وحسن ياغي وفاروق مردم بيك بين الرواية والسياسة والحياة.
المهرجان الضخم الذي تنظمه مجلة "انترناشونال" الإيطالية يتم في مدينة فراري. المدينة الصغيرة المعروفة فقط بسبب صناعة السيارات الثمينة التي تحمل اسمها. رئيس البلدية قبل أحد عشر عاما توجه إلى المجلة المرموقة واقترح على إدارتها أن تقيم مهرجانا تجمع فيه كتابها ومراسليها وتدعو كتابا وصحافيين من كل أرجاء المعمورة لمناقشة القضايا الراهنة في الأدب والسياسة والحياة. كانت فكرة عمدة المدينة أن يجعل من مدينته مكان تجمع ونقاش وحيوية ومركزا للقاء صحافيي وكتاب العالم.
الآن يعقد المهرجان للسنة العاشرة ليصبح الأهم من نوعه في إيطاليا حيث تتحول المدينة الصغيرة فجأة وفي نهاية الأسبوع الأول من تشرين الأول إلى مدينة تعج بالحركة ممتلئة بالحياة يفد إليها الناس من كل أرجاء إيطاليا. هذه السنة تمت دعوة أكثر من مئتي كاتب وصحافي من جهات الأرض الأربع. وفي اليوم الواحد يكون هناك أكثر من سبعين ندوة. ولا يمكن أن تجد ندوة غير مكتظة ويصطف الناس طوابير منتظرين أن يخرج بعض الحضور ليدخلوا.
لم أتمكن من حضور موعدي الأول للتعليق على فيلم "طريق عائلة السموني" الوثائقي للمخرج الإيطالي ستيفنو سافونا وهي فعالية افتتاح المهرجان. سافونا يصور بألم حادثة مقتل جيش الاحتلال لعائلة السموني خلال عدوان ٢٠٠٨ ويستعيد حياة العائلة قبل الموت من خلال جرافيك ورسومات بطريقة مبهرة. في اليوم التالي كنا نجلس أنا وسعاد العامري وإلياس صنبر وسلمى الدباغ ورولا الحلواني. كنا خمسة كتاب من أهم ثلاث مدن فلسطينية: يافا والقدس وحيفا. في قاعة المسرح البلدي التي اكتظت في الصالة وعلى النوافذ في الطوابق الخمسة المحيطة بالصالة حيث قرابة الألف مستمع كان الحديث عن الأدب والحياة والواقع والتجارب الشخصية. في الصف الأول كانت السفير الدكتورة مي كيلة تتحرك بحيوية ونشاط قبل الندوة وبعدها تواصل مهمتها في الترويج لمعاناة وأحلام شعبها. كما كانت صديقة فلسطين الكبيرة لويزا مورغنتيني الرئيسة السابقة للجنة فلسطين في البرلمان الأوروبي.
جاءت زيارتي إيطاليا في ظل الأجواء العاصفة التي تركتها مقابلة الصحافية الإيطالية فرانشسكا بوري مع يحيى السنوار. بوري جاءت أكثر من مرة إلى غزة. وهي صحافية مهمة في إيطاليا كتبت مجموعة من الكتب عن المجموعات المتطرفة في جزر المولديف وعن دولة "داعش" في سورية بعد أن عاشت التجربتين مراسلة. وهي تعمل لصالح صحيفة "روبوبلكا". بوري أجرت قبل ذلك عشرات المقابلات وهي صديقة للشعب الفلسطيني كما أكدت لي مورغنتيني، وكنت قابلتها في غزة أكثر من مرة. الأزمة في مقابلة السنوار، ان كل النقاش تم على الشكليات دون التركيز على فحوى المقابلة. والحقيقة أن ثمة تعارضا بين النص العبري والإيطالي كما قرأت خاصة في السؤال حول الحديث للصحافة الغربية كما في النص الإيطالي.
عموما ورغم كل ما قيل فإننا يجب ألا نخسر مقدرتنا على التواصل مع العالم لأن المواجهة الإعلامية جزء من نضالنا. المشكلة كمنت في ردة فعل "حماس" التي حصرت الأمر بشكلياته. وربما هذه فرصة للتفكير في سبل الحوار الداخلي كجزء من منظومة التعامل الوطني مع واقعنا. وربما التناقض غير المصرح به بين الخطاب الداخلي والخطاب الخارجي هو أساس العلة في ردة الفعل. أنا لا أجد حرجا في الحديث مع صحافة إسرائيلية رغم أنني لم أفعلها ولا يبدو أنني بصدد ذلك، ولكن أيضا من المهم أن يصل صوتنا. واختلافي ربما في الرسائل التي ابرق بها السنوار والتي يتم توظيفها لصالح فصل غزة عن المشروع الوطني من خلال تركيزه على واقع غزة فقط في تصغير للهم الوطني العام. وكان يجب أن يكون هذا بيت القصيد في النقاش حول المقابلة. هل هذه رسائل مقصودة وموظفة؟ نحن بحاجة لوحدة وطنية تقينا هذه الحالة التي وصلنا لها. أظن أنني قلت كل ذلك لفرانشسكا بوري وهي تحاول أن توضح أنها لم تخطئ.
بقلم/ عاطف أبو سيف