لا شك أن الرأي العام الفلسطيني بما اكتسب من تجربة غنية وطويلة حول مواقف عديدة ... اتجاه قضايا واشكاليات متعددة على الصعيد الداخلي ... واشكاليات الصراع المحتدم مع المحتل الاسرائيلي ... في ظل ظروف دولية واقليمية تتأرجح في مواقفها ... ولا تعمل على حسم مواقفها بصورة قاطعة وجلية... الا بما ندر من بعض الدول ... دون غيرها من الدول التي لا زالت تأخذ موقف الحياد بمواقفها الخجولة وغير الحاسمة.
قناعات الرأي العام الفلسطيني أصبحت ثابتة وراسخة ... ولا مجال لحرفها أو تبديلها الا اذا كان هناك انقلابا بالمواقف ... وهذا ما لم يحدث حتى اللحظة ... في ظل معطيات ومؤشرات ودلالات تؤكد على ان المواقف على حالها ... وان العلاقات لا زالت محكومة بمصالحها.
فالحديث والتصريح حول قضايا عديدة سواء على الصعيد السياسي او على صعيد الأوضاع الاقتصادية وما يعلن من ميزانيات تشغيلية وتطويرية ... وما يمكن أن يشار من قريب أو بعيد حول احتماليات زيادة المدخولات العامة ... وازدياد الايرادات والمساعدات ... وما يمكن أن يرد للميزانية العامة من منح وقروض ومساعدات ... لا يستطيع المواطن تفحص وتحليل البعد المالي والاقتصادي والاجتماعي لعمليات الصرف المالي ... على اعتبار انها تحتاج الى تخصصات بالعلوم المالية والمحاسبية والاقتصادية والذي لا يتوفر لكل مواطن ... وهذا ما يحتاج الى تبسيط الأمور ... وان تكون بقدر المستوى والقدرة على تفهم ارقام جامدة ... بكل الأحوال ... فما يعني المواطن في الجانب الاقتصادي والمالي... هو زيادة مدخولاته وانخفاض الأسعار وتوفر فرص العمل وزيادة الانتاج الوطني ودعم الصناعات الوطنية وتفضيلها عن المنتجات الاسرائيلية والاجنبية وان يحكم السوق الفلسطيني بما ينتج محليا ... وفي القليل مما يتم استيراده... حتى نستطيع ان نشكل ميزانا تجاريا لائقا وقادرا على احداث التنمية المستدامة وحتى نكون في موقف اقتصادي قادر على النهوض بالحالة الفلسطينية برغم القيود المفروضة بحكم اتفاقية باريس الاقتصادية التي قلصت من قدراتنا الاقتصادية والتجارية... وجعلتنا بموقف اقتصادي ينتظر المساعدات ... بأكثر مما يستطيع ان ينتج وان يضاعف من انتاجه الصناعي والمالي وتحقيق العائدات المجزية والفائض المالي الاقتصادي الأمثل.
المواطن والرأي العام لا يكترث بما يأتي من تصريحات اقتصادية ومالية الا بالقدر الذي يمّكن المواطن من تلبية احتياجاته المعيشية ... وتحقيق متطلباته الحياتية كالمأوى والمسكن والتعليم والصحة وتقديم الخدمة المناسبة والملائمة التي تحفظ للإنسان كرامته وادميته... وأن يحقق المواطن عائدا ماليا يستطيع من خلاله تغطية نفقاته بصورة محترمة وبعائدات مناسبة وبقدرات شرائية تتناسب ومدخولاته.
ما يجري بحقيقة الأمر ... ان هناك غيابا واضحا في المعلومات الاقتصادية والمالية واليات الصرف المالي في الجوانب المتعددة ... وهذا ما يتم تلمسه من ضعف الخدمات وتهالك البنية التحتية... والاحتياجات العديدة للإنشاء والتعمير وتشييد البنى التحتية... وبناء المرافق الخدماتية القادرة على تلبية احتياجات المواطن ... قضايا اقتصادية ومالية وخدماتية لا زالت تراوح مكانها كما ولا زالت تقصر بمعلوماتها وحتى بإنجازاتها مما يضع المواطن والرأي العام أمام اشكالية عدم الثقة... بما يرد من تصريحات... وما يعلن من خطط واستراتيجيات.
الرأي العام الفلسطيني لا يقتصر حاله عدم الثقة بالجوانب الاقتصادية والمالية والخدماتية... بل يتعدى ذلك للجوانب الوطنية والسياسية الداخلية ... في ظل حالة الاشتباك والتنافر والتجاذبات والمناكفات... التي تستمر دون مبرر واضح ... ودون اسباب مقنعة ... ودون أهداف يمكن أن تحقق لنا أدنى الفوائد ... اشكاليات انقسامية تعبر عن ظواهر ومظاهر نفعية أحادية النظرة... لم تصل برؤيتها الى الحالة الوطنية العامة ومتطلباتها... بل تستمر حالة المناكفات والتجاذبات لتصل الى حالة استمرار الانقسام وتعميقه وتجذيره ... بكل تبعاته وأزماته المتلاحقة... مما يضع الرأي العام أمام موقف عدم الثقة بالمتحدثين والقائلين... بعكس واقع الحال على اعتبار ان ما يطلق من تصريحات للطمئنة... او محاولة بعث الآمال... تأتي في سياق المجهول... لعدم واقعيتها... وملامستها للظروف والمعطيات القائمة ... مما يفقد قائليها ثقة الرأي العام ... ما يجب أن يقال يسبقه خطوات ... ما يجب ان ينفذ ... وان يلمس ... لدى المواطن والرأي العام والا فان مجرد الحديث وبعث الاطمئنان وتجديد الآمال ستبقى مجرد خدعة اعلامية ... وتضليل سياسي... ربما لا يقصده المتحدثين... ولكنها تصريحات تأتي في سياق مجريات الاحداث وعدم امكانية القول بعكس ما يقال... حتى لا تشكل صدمة وطنية للجمهور المتلقي ... بما يمثله من فئات وشرائح اجتماعية واقتصادية لا زالت تنتظر الفرج... وتعزيز الأمل ...وانجاز مشروع وحدة الموقف... وانهاء هذا الانقسام الذي لا زال يشكل صفحة سوداء بتاريخنا الوطني ... كما لا زال يحقق المصالح الاسرائيلية.
الرأي العام الفلسطيني يمتلك من مقومات الوعي ما يكفي لفرز الحقائق... وتبيان مقدار اخفاء الحقيقة... لأنه رأي عام اكتسب تجربته على مدار عقود طويلة ... وتحمل العديد من الصدمات وخدع بطريقة أو بأخرى ... ولا زال يخدع بالحد الأدنى... لمن لا يمتلكون قدرة الوعي على الفرز والفصل ... وحتى حسم المواقف ... وهذه نتيجة طبيعية لمجتمع كبير فيه من الشرائح والطبقات متعددة الوعي والأفكار... ولها مصالحها هنا وهناك.
تماسك الرأي العام الفلسطيني وقدرته على ايصال رؤيته بكل شجاعة وقدرة واقتدار ... ستكون عامل حسم... في وقف كل ما هو خارج الحقيقة... لأن الوعي يعتبر أساس الفرز والفصل والحسم... وليس أي شيء اخر يمكن أن يكون.
بقلم/ وفيق زنداح