لا يمكن تخيل النكبة الفلسطينية وقيام إسرائيل على أحلام الشعب الفلسطيني ومراتع طفولته ومواطن ذكرياته وارضه وارض آبائه وأجداده دون استحضار الدور الكبير الذي قامت به بريطانيا في هدم فلسطين وقيام الكيان البديل لمجموعات المستوطنين والمهاجرين اليهود. ومع ذلك فإن الصهيونية حتى اللحظة في كل منتجها المعرفي وتوثيقها التاريخي في الكتابات الأدبية ترسم علاقتها مع بريطانيا خلال مرحلة الانتداب بالتوتر والاشتباك والقمع والنضال المضاد. بالطبع الأمر لا علاقة له بحقيقة المشاعر تجاه بريطانيا ولا بحقيقة ما قامت به بريطانيا للصهيونية ولإسرائيل بقدر ارتباطه بعملية التزييف المستمرة التي تعمل عليها الصهيونية من أجل تقديم صورة ربانية حتمية لقيام دولة اليهود. هذا الي جانب استكمال مسلسل الربط القسري القهري لوجود إسرائيل ضمن النسق الطبيعي لظهور الدولة الوطنية في أوروبا. فرغم الغضب على أوروبا لأنها اضطهدت اليهود وأعملت فيهم الحروب والقتل إلا ان ثمة هوسا في الوعي الإسرائيلي "أننا جزء من أوروبا". ويمكن بقراءة الأدب العبري والأطروحات السياسية لقادة إسرائيل الوقوف على الكثير من هذا الإصرار. ما أقصده هنا ان العداء السردي لبريطانيا في أدبيات الحركة الصهيونية وفي تأريخها لظهور إسرائيل المنافي الحركة التاريخ مرتبط بمحاولة تصوير هذا الظهور بوصفه جزءا من حركة التاريخ الأوروبي.
مرة أخرى، لا علاقة للأمر بالحقيقة، إذ ان كل ما هو مرتبط الصهيونية ووجودها وأهدافها وطرق تحقيق ذلك رهن حالة من التخليق والصياغات الوهمية التي تخدم الأهداف العامة للمشروع الكولونيالي الإحلالي. فبريطانيا ليست من قدم وعد بلفور وليست هي من ساعد في توطين المستوطنين اليهود ومنحتهم الأراضي الحكومية وسهلت تملكهم للأراضي الخاصة وسنت للقوانين والتشريعات التي مكنت لهم في الأرض، فهي إلى جانب ذلك منذ أول أيام الانتداب تبنت الرواية الصهيونية من أوسع أبوابها: المسرودات التاريخية. ومن أجل ذلك ومنذ اليوم الأول للاحتلال البريطاني تم تقديم البلاد بوصفها متنازعا عليها بين قوميتين، وتم تحديد اللغة العبرية التي لم يكن يتحدثها إلا بضعة آلاف من الباحثين عن ملجأ من وطأة الحياة في أوروبا كلغة أساسية. لم أستوعب كيف ان الجنيه الفلسطيني مكتوب عليه بالعبرية كذلك طابع البريد. كل شيء كان ثنائي اللغة. صحيح أننا لابد أن نشعر بالحنق على الحركة الوطنية آنذاك لكن ما ارمي اليه هنا هو فهم كيف عملت بريطانيا من أجل شرعنة الوجود الصهيوني في فلسطين. وتم تحضير الأمر مع الزمن ومن خلال لجان التحقيق الوهمية التي كان يرسل بها البرلمان البريطاني والحكومة بوصفه صراعا قوميا بين مجموعتين قوميتين لكل منهما طموحه الوطني. الحل بالطبع سيكون من خلال اقتسام البلاد بينهما وبالتالي استصدار قرار أممي بذلك. وعليه انتقل وعد بلفور البريطاني إلي حيز وجوب التنفيذ الدولي بعد صدور قرار التقسيم في العام ١٩٤٧.
هل ثمة دور أكبر من هذا يمكن لقوى ان تلعبه في خلق دولة من الصفر؟ ومع هذا فإن الصهيونية تصور العلاقة مع الانتداب البريطاني التي سبقت النكبة بوصفها علاقة اشتباك وكفاح. بل إن متابعة الأدبيات والكتابات تجعلك تلمس الكره الكبير الذي يفوح منها لبريطانيا. مرة أخرى هو كره مصطنع من أجل استكمال الرواية المعاصرة لقيام إسرائيل. فإسرائيل مثل كل الدول المعاصرة وهذا وفق الرواية الصهيونية قامت بالتحرر من الاحتلال الذي كان يعيق وجودها. وعليه فإن بريطانيا وفي تعارض صارخ مع الحقيقة كانت تحتل إسرائيل وتمنع استقلالها وبالتالي فإن النضال ضد الانتداب البريطاني بالسلاح كان جزءا من عملية التخلص من الاحتلال والتحرير والاستقلال. لذلك فإن يوم النكبة بالنسبة لإسرائيل ليس يوم وجودها أو يوم قيامها بل يسمى عيد الاستقلال. لماذا يبدو هذا مهما؟ لأنه يفسر كيف يعمل العقل الصهيوني. فالعالم مدان وعليه دائما ان يشعر بالذنب ولا مكان لشكرا وعفوا مثلما هو الحال عندنا. من جانب آخر فإن إسرائيل لم تولد بعد التخلص من الشعب الفلسطيني وتهجيره بل بعد عملية كفاح تحرري لأن الدول المعاصرة لا تقوم إلا بعد استقلال وكفاح. الهوس الصهيوني في موضوع إسرائيل ضمن النسق العام لتطور التاريخ الأوروبي.
لا يقتصر الأمر على ذلك بل يتم تصويره بفجاجة حتى في الكتابات الأدبية وربما بقراءة بعض أعمال أ. ب. يهوشواع الروائية كما بأعمال عاموس عوز يمكن الوقوف على تصويرات الواقع غير الموجود إلا في ماكينة الدعاية وحدها. اقرأ مثلا سيرة عاموس عوز الموسومة "حكاية حب وظلام" وكيف يتحدث الطفل عاموس عن البريطانيين وكيف يعيقون أحلام مجموعات الحالمين بلغة عوز بالطبع. في المقابل يرسم عوز صورة وردية لمدينة القدس وتل أبيب بوصفها حواضر تعج بالحركة والحياة والفن حتى تظن نفسك في باريس الثلاثينيات في افتراء على الواقع والتاريخ. وربما قمنا في مرة لاحقة بالحديث أكثر عن هذا في إشارة معمقة لسيرة عاموس عوز التي تمت الإشارة إليها.
باب القصيد في ذلك أن الحركة الصهيونية ودولة الاحتلال التي أنتجتها تصوغ كل شيء وفق الأهداف الكبرى للمشروع الكولونيالي الإحلالي وليس وفق مرافعات أخلاقية أو قائمة رغبات ذاتية أو عامة. هذا لا ينفي الإقرار بفضل بريطانيا ولا تخليد قادتها الذين ساهموا في إيجاد إسرائيل من الهدم عبر تسمية شوارع وميادين على اسمهم. ولكن هذا شيء وصناعة المسرودات التي تؤسس الحكاية امر آخر. اما نحن فباتت شواغلنا الشكر والمديح والإطراء مقابل كيلو سكر ربما أو ساندويش فيما القضية لا تبرج مكانها ربما. أعاننا الله على هذا الشقاء وربما ضعف البصر والبصيرة.
بقلم/ عاطف أبو سيف