دخل سفارة بلاده يبحث عن الحرية؛ ذلك العصفور الذي تجرأ أن يترك القفص الذهبي ويهرب بعيدا ليغرد بصوته الحر، لم يكن ناكرا لجميل من حفظه في القفص طويلا؛ فلم يشتم ولم يعلن براءته منه، بل تحسر والدمعة تكاد تفر من عينيه على أنه لا يستطيع أن يعود إليه، أراد أن يُرجع طرف الخيط الذي علق بقدميه إلى القفص باحترام، وأن يُسدل الستار على حياته هناك ويبدأ حياته بعيدا عن الخوف والقلق لكي يغرد آملا بيوم تتحرر فيه البلاد والعباد، لكن، لم يكن القفص ليسمح بأن يرى الناس أحد مواطنيه وقد تحرروا وهربوا بعيدا إلى جنة الحرية والأمان فيطمع غيره ويحاول أن يترك القفص ثم ما يلبث أن يصبح وحيدا بلا مادح ولا مسوِّق لسياسته وتصرفاته في حق الأرض والإنسان كهبة من السماء يجريها الله على يديه.
تعتبر سفارة الدولة جزء من أراضيها ويسري على من فيها قانونها، وهي ترعى شؤون مواطنيها القاطنين في تلك الدولة المستضيفة، تقف بمثابة حكومة مصغرة يؤوب إليها مواطنيها في كل الأمور ويستصدرون منها ما يلزمهم من وثائق، ويستغيثون فيها إذا تعرضوا لظلم على تلك الأرض، كما حصل مع مدرب النادي الأهلي المصري مانويل جوزيه بعد أحداث بور سعيد، بل أن السفارة يمكن أن تقدم الحماية لغير مواطنيها من حكومتهم ذاتها وتؤويهم على أراضيها، ولا تستطيع الدولة الوصول إليهم إلا حين يخرجوا، منها كما حصل مع مؤسس موقع ويكيليكس جوليان أسانج حين لجأ لسفارة الإكوادور عام 2012 والصحفي الأذربيجاني أمين حسينوف حين لجأ لسفارة سويسرا عام 2015.
لا شك أن خسارة الخاشقجي تعد كبيرة على جميع الأصعدة؛ الصحفية ككاتب متحرر رفض ممالأة نظام تحول إلى القمع والتنكيل بشعبه والنخبة العلمية والسياسية فيه، والسياسية كمستشار قريب من دوائر صنع القرار السعودية، وكمخابراتية كونه كان مستشارا للأمير تركي الفيصل رئيس المخابرات السعودية وعدد من الأمراء السعوديين مما يرشحه كمصدر من داخل الجهاز ولسان حال يصف التحولات داخل العائلة المالكة ، وعلى الصعيد العربي لصلته بالأمير سعود الفيصل عميد وزراء الخارجية العرب حين كان يتحدث في الشأن السعودي بثقة وصلاحيات واسعة داخليا وخارجيا، والشاهد على التحول الدراماتيكي في السياسة السعودية بين الملكين عبد الله وسلمان ثم ولاية العهد لمحمد بن سلمان، ودوره في الدفاع عن السعودية والعالم العربي بعد الحادي عشر من سبتمبر في دوائر صنع القرار الأمريكية؛ ولعل هذه الأسباب التي دعت القيادة السعودية لتصفيته قبل أن يصبح بركانا يهز عرش العائلة المالكة إذا امتلك حصانة الجنسية الأمريكية.
وكأي مواطن مغترب كان مجبرا على استصدار وثيقة طلاق من زوجته للزواج مرة أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية عبر سفارة بلاده في واشنطن، لكنهم رفضوا طلبه وأقنعوه بإمكانية الحصول عليها من السفارة السعودية في تركيا بما أنه مسافر هناك لإتمام مراسم زواجه، وبيّتوا له الغدر لأنهم لا يستطيعون المسّ به في الولايات المتحدة خشية تهييج الرأي العام الأمريكي ضدهم، ولأنه، أي الخاشقجي، قد طلب الحصول على الجنسية الأمريكية ولم يكن من المستبعد أن يحصل عليها، وهم في غنى عن أي تصادم مع بلد الحرية والديمقراطية، ولما وصل السفارة التركية احتفل القفص بأن العصفور قد وقع، ووجد من الموظفين الحفاوة والترحيب والاحترام كأنه لم يضيق عليه في بلاده ولم يُمنع فيها مؤلفاته، علاقات حرجة: السعودية بعد 11 سبتمبر، ومقالاته المختلفة، ولم يكن هناك موقف منه عند النظام السعودي، فقد آن أوان إعداد وليمة تليق به وحضور المتربصين به منذ هربه للتأكد من نهايته، وبرغم حذره وإحساسه الأمني ومعرفته بما يجيش في صدور أعدائه تجاهه إلا أن الحب أقوى وقضاء الله أسرع فكان ما كان، وكان لخطيبته الفضل في كشف الجريمة النكراء.
ضُخمت الروايات حول وقائع قتل جمال الخاشقجي، في سفارة بلاده وكثرت الاستنتاجات التي جعلتها تكاد تكون كمشاهد أفلام الرعب في هوليوود، وتوالى ظهور الأدلة التي تشير إلى تدخل القادة السعوديين بشكل مباشر وتصفهم بالسادية والوحشية، وهي برأيي عملية فاشلة من المخابرات السعودية لاغتيال شخصية سياسية كانت ستفضح السياسة السعودية وتعريها أمام الرأي العام العالمي، وحيث أنه تم التخطيط لها من قبل قيادات أمنية ومخابراتية فمن المستغرب أن لا يتم مراقبة الرجل بعد تأكد وصوله إلى السفارة في تركيا أول مرة، ثم عدم مراقبة من كان معه وانتظره خارجها ولو عبر كاميرات المراقبة، ثم انتظار خطيبته ثلاث ساعات لمعاملة لا تحتاج لأكثر من ثلاثين دقيقة، وما الحاجة لقتله داخل غرفة القنصل إن كان قد تم تسريح غير السعوديين من السفارة، وما الداعي لتقطيعه ثم نقله بحقائب دبلوماسية ويمكن نقله كاملا في سيارة واحدة دون أن يثير أدنى شبهة، وبرغم قسوة هذه الجريمة وبشاعتها واستنكارنا لكل من كان له يد فيها لكنها في النهاية تصدرت المشهد بدل متابعة الموقف الأمريكي من القدس واللاجئين، والخطر المحدق بالأقصى ثم مستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية في ضوء تأرجح القيادة والتهديدات الأمريكية والإسرائيلية المتتالية، وحرب التحالف العربي في اليمن، ونظام الدفاع الجوي الذي وصل لحكومة بشار الأسد، وبراءة القس الأمريكي برونسون من تهمة التآمر لقلب نظام الحكم في تركيا.
أسامة نجاتي سدر