"ألو ألو"... أمي ماتت...أمي ماتت، هو صوت الطفلة راما (9سنوات) ابنة الشهيدة عائشة محمد الرابي عندما امسكت هاتف والدتها في المستشفى ترد على اتصالات الناس، تبكي وتصرخ: "ماتت أمي...ماتت أمي".
في يوم 13/10/2018 ارتقت الشهيدة عائشة الرابي (45 عاماً) سكان قرية بديا قضاء سلفيت جراء اصابتها بحجر كبير في رأسها بالقرب من مستوطنة "رحاليم" القريبة من حاجز زعترة العسكري جنوب نابلس بعد ان هاجم مستوطنون حاقدون السيارة التي تستقلها برفقة زوجها وابنتها ليلاً اثناء مرورها بالشارع.
استشهدت عائشة فوراً على مقعد السيارة، تناثرت دماءها وسالت غزيرة على وجهها، تطاير الزجاج والدم والصرخات في تلك الليلة المتوحشة، لم تصل عائشة الى البيت، صارت المركبة قبراً، وسجل حاجز زعترة العسكري جريمة اعدام اخرى تضاف الى عشرات الاعدامات التعسفية التي ارتكبت على يد الجنود والمستوطنين.
الشهيدة عائشة الرابي كانت عائدة من مدينة الخليل في زيارة لابنتها سلام لوضع اللمسات الاخيرة على تجهيز وترتيبات عرسها القريب، فستان العرس الأبيض تلطخ بالدماء، سقط الاكليل، المدعوون للزفاف شطبوا المواعيد ووصلوا الجنازة، قتلت الفرحة والبهجة والرقصة والغناء، تبعثر الحناء والورد والوقت وسكت المساء.
"ألو...ألو"، ماتت أمي، صوت الطفلة راما يرتفع ويشهق في صدمتها وصياحها وهي تعلن فجيعتها وتنادي وتستغيث، فمن يسمع؟ ارهاب المستوطنين واعتداءاتهم تتصاعد تحت حراسة وحماية جيش الاحتلال، الطرق في الأراضي المحتلة لم تعد توصل الناس الى منازلهم وقراهم، خوف وترقب وانتظار، الموت يتربص في كل اتجاه، دولة مستوطنين تتضخم في كل مكان.
"ألو...ألو، ماتت امي"، صوت ابنة عائشة الرابي، لماذا يموت الفلسطيني قبل الزفاف؟ شقيقها (فوزات) استشهد عام 1999 قبل زفافه بساعات، وابنتها سلام تودع والدتها قبل زفافها بأسبوعين، كلما اقترب الفلسطيني من ارض احلامه اغرورقت عيناه، يتعثر ويصلب على طريق الحياة.
"ألو...ألو، ماتت امي" , نداء المزارعين في موسم قطاف الزيتون، زعران المستوطنين يستبيحون الاراضي، يحرقون ويقطعون الاشجار، يعتدون على الناس ويمارسون عنصريتهم وأرهابهم ضد الزيت والزيتون والآيات المباركات، كل شئ في حقولنا أصبح صامتاً، اسلاك وجدران وطرق التفافية وبوابات وطلقات رصاص.
"ألو..الو ماتت أمي"، صاحت حمامتنا الذبيحة، المستوطنون خلف الباب، أمي غطتها الدماء، نحن في عين الاعصار،موسم الزيتون يفقد جماله ورونقه ، لا نوم ولا امان ، لم نعد نسمع في موسم القطاف: على دلعونا على دلعونا .. زيتون بلادي اجمل ما يكونا , فمن يغني في البدية ويسمع الحجر الناري ؟ يرى نساء فلسطينيات يطرزن حبات الزيتون على ثوب السماء .
"ألو..ألو ماتت أمي"، صوت سبعة شهداء سقطوا في نفس اليوم في مسيرات العودة في غزة، صوت الأسيرات الفلسطينيات لا زلن معتصمات يرفضن اذلال وقمع ادارة السجون، صوت الشيخ الأسير خضر عدنان يخوض اضراباً مفتوحاً منذ 50 يوماً ضد اعتقاله الأداري التعسفي، صوت المسجد الأقصى في القدس يشتبك مع عصابة المتطرف "غليك" الذي يقود الاقتحامات و الاستفزازات ويعتدي على الصلاة، صوت المسيح عليه السلام وهو يلملم عشرات الصلبان والشواهد التي حطمها وكسرها المستوطنون في مقبرة "دير بيت جمال" غرب القدس.
"ألو..ألو ماتت أمي"، صراخ الطفلة راما وقد عادت الى قرية بديا تحتضن امها القتيلة، استقبلت القرية الشهيدة، تحركت اضرحتها واشجار زيتونها الرومي، تحرك الماء في آبارها الكنعانية القديمة، تحركت معصرة الزيت في يدها فصار قطاف الموت قطاف، يعود الشاب الياس ياسين الى قريته بديا يوم 15/10/2018 شهيداً، فقد جرى اعدامه على يد جنود الاحتلال بالقرب من مستوطنة "اريئيل" فاكتمل العرس واتسعت الجريمة.
"ألو .. الو , ماتت أمي" ,وصلت الجثة الى قرية بديا الفلسطينية، القرية التي تعني معصرة الزيت، سميت بديا لانها تشبه البد، وهو الجذع الثقيل الذي يستخدم في عصر الزيتون، ترفع الآن كل جذوعها و اشجارها واياديها، تحرك ترابها وتاريخها ليسيل الزيت كثيراً والدم
"ألو...ألو،ماتت أمي"، صوت محمود درويش يأتينا من فوق السحاب:
لو يذكر الزيتون غارسه
لصار الزيت دمعاً
سنظل في الزيتون خضرته
وحول الأرض درعاً
بقلم/ عيسى قراقع