ثقافتنا السياسية ومنذ عقود طويلة ونحن نرفض كل ما تقوله امريكا ... ونعتبرها الشيطان الاكبر ... ونقول فيها الكثير مما يجب قوله ... بأنها منحازة ومعادية وداعمة لمن اغتصب ارضنا وسلب حقوقنا .
موقف طبيعي وتاريخي يتحدث عن نفسه بكافة المنعطفات والمحطات والتي تدلل على ان امريكا لم تكن معنا في يوم من الايام ... وانها تشارك عدونا باحتلاله وزيادة غطرسته وقتله لنا واستمرار احتلاله لأرضنا ... هكذا تشكل الوعي لدينا ... وهكذا كانت الحقيقة الثابتة والراسخة بذاكرتنا ... والتي لا ندعي فيها باطلا بل حقا واضحا وثابتا .
أمريكا كانت لها دور هام واساسي في اتفاقيات السلام المبرمة ما بين مصر واسرائيل .. وما بين الاردن واسرائيل ... كما كان لها دور باتفاقية السلام الفلسطيني الاسرائيلي
(المرحلة الانتقالية اتفاقية اعلان المبادئ ) .
لم يكن بإمكان أحد ان يكون له دور في لعبة السياسية الدولية وابرام الاتفاقيات والوصول الى تسويات خارج الاطار الامريكي لأسباب عديدة لها علاقة بانها القوة الاكبر وانها القطب الواحد في ظل حالة ارباك دولي وعدم قدرة على بلورة موقف موحد ازاء القضايا الدولية .
مقدمة كان لا بد منها حتى نصل الى صلب ما نريد قوله بخصوص صفقة القرن والتي استمعنا اليها مع بدايات وجود الادارة الامريكية الجديدة للرئيس ترامب ... والذي تحدث عنها اسما دون مضمون ... ودون بنود يمكن قراءتها والكشف عنها .
مسمى قيل عنه اما ان تقبلوه بمجمله واما ان ترفضوه ... فكان الرفض قاطعا مما احرج الادارة الامريكية وجعلها بموقف المطالب من القيادة الفلسطينية بالحديث والمناقشة الا ان الرفض كان قاطعا وحاسما بل تعدى الرفض لما سمى بصفقة القرن الى رفض الوساطة الامريكية ورعايتها لاي مفوضات او تسوية مقبلة ... وكل ما قيل ان بإمكان أمريكا ان تكون ضمن المنظومة الدولية وليست منفردة .
صفقة مبهمة غامضة على الاقل لم نتعرف على بنودها لكننا رفضناها برفض قيادتنا لها دون ان نسمع عن تفاصيلها والتي لم تعلن على الراي العام ولا حتى على القيادات والفصائل والمؤسسات وشرائح المجتمع من مثقفين وكتاب واعلاميين .
كل ما قيل انها صفقة العار ... وانها لا تلبي الحقوق الفلسطينية .
فهل الرفض القاطع بناء على معلومات دقيقة تم الاطلاع فيها على فحوى الصفقة ؟!!!
اولا :- لا اعتقد ان الرئيس محمود عباس يمكن ان يرفض أي شئ يمكن ان يطرح عليه ويتلائم مع مشروع حل الدولتين ويعمل على تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني وعلى اساس قيام دولة فلسطين وعاصمتها القدس بحدود الرابع من حزيران 67 .
ثانيا :- لا اعتقد ان الاشقاء العرب يمكن ان يرفضوا مثل هذه الصفقة دون معرفة بنواقصها واهدافها وحتى تأكدهم من انها تتناقض مع مبادرة السلام العربية وقرارات القمم العربية والشرعية الدولية .
من هنا وحيث ان الصفقة لم تطرح بالعلن ... كان الرفض الفلسطيني والعربي مقنعا وملبيا لمجريات الاحداث وتفاصيلها .
لكن ليبقى السؤال ..
هل صفقة القرن ببداية الحديث عنها والاطلاع على بعض تفاصيلها .. هي ذاتها الصفقة التي يجري الحديث عنها اليوم ؟!!!
ربما لا يستطيع احد الاجابة على هذا السؤال الا لمن تم اطلاعه من حيث المبدأ على هذه الصفقة ببداية الحديث عنها .. وما يجري اليوم من محاولات حثيثة لتحسين صورتها ... وجعلها طبخة مقبولة وليست مرفوضة بالمطلق .
صحيح ان امريكا قد قالت بصريح العبارة اما قبولها .... او رفضها .....لكن التجربة ما بعد الرفض القاطع ... والالحاح القائم .... يدلل على ان الرفض الفلسطيني والعربي قد فرض معادلة جديدة على الادارة الامريكية جعلت من الصفقة في بداية الحديث عنها ... تختلف عما يراد طرحها والاعلان عنها مع نهاية العام الحالي وما يسرب عبر الاعلام العبري حول نوايا الرئيس ترامب بجعل القدس عاصمة للدولتين اسرائيل وفلسطين.
فهل هذا الحديث والتسريب الاعلامي فخ سياسي للقبول والتعاطي وبدرجات محددة مع الصفقة ؟!!!!
وهل الرفض الفلسطيني القاطع قد حرك واحدث التغيير في بنود الصفقة وجعل من تلك التسريبات أمرا ضروريا للرضى وامكانية القبول حتى وان كان بشروط ؟!!!
أمريكا وادارة ترامب وقد اتخذوا من القرارات والخطوات التي تؤكد نواياهم السيئة وانحيازهم الكامل بنقل السفارة الامريكية للقدس والتلاعب بقضية اللاجئين ... ووقف المساعدات المالية لهم .... كما وقف المساعدات عن السلطة الفلسطينية واغلاق مكتب منظمة التحرير بواشنطن وحتى نقل القنصلية الامريكية من شرق القدس الى حيث موقع السفارة الامريكية واعتبارها جزءا منها .
مثل هذه السياسة المنحازة والتي تحاول ان تخلق من الامر الواقع واقعا سياسيا يصعب تغييره وهي بذلك ترتكب خطأ فادحا لان الحقوق لا تسقط بالتقادم ... وان القوة المحتلة لا شرعية لقراراتها ... ولا شرعية لما يمكن ان تحدثه من تغيرات .
بكل الاحوال استطاعت القيادة الفلسطينية اسقاط صفقة القرن الاولية مما جعل من ادارة ترامب وفريقه من احداث التغييرات التي يمكن ان تقترب من الحقوق الوطنية الفلسطينية الا ان هذا التغيير المتوقع والمحتمل لا يغير من حقيقة الموقف ومضمونه والذي يثير لدينا الكثير من التخوفات والتساؤلات .... حول ماهية النوايا الحقيقية المراد الوصول اليها من هذا التغيير المحتمل في بنود الصفقة .... في ظل الوقائع التالية :-
• أمريكيا :- عدم القبول الامريكي بسياسة الرفض المطلق لتوجهاتهم من قبل القيادة الفلسطينية وتأثيرها على المواقف العربية لاكثر حلفاء أمريكا بالمنطقة مما ازعج ادارة ترامب وجعلها بموقف عدم التأثير والحسم وهذا ما يتناقض ومصالحهم ونفوذهم بالمنطقة مما يوفر احتمالية التعديل لاحداث اختراق في المواقف المعارضة وبالتوافق مع بعض الاطراف الاقليمية والدولية لممارسة الضغوط على القيادة الفلسطينية لاجل التعاطي مع الصفقة المعدلة والمحتملة .
• اسرائيليا :- المأزق الاسرائيلي وما يتهددهم وفشل سياستهم عبر عقود طويلة واهمية ايجاد تسوية مع الفلسطينيين والقيادة الفلسطينية أمرا اصبح ضروريا وملحا وهم بذلك لن يعارضون أي تعديلات بهذه الصفقة الامريكية طالما تحفظ تفوقهم وامنهم .
• فلسطينيا :- الرفض القاطع في ظل حالة من الضعف والتشتت والانقسام اضعف من الصوت الرافض لكنه لم يفقد قوته وتأثيره بفعل الحلبة الدولية والعلاقات السياسية والدبلوماسية ومدى التصدع بالموقف وعدم القبول الدولي بصفقة القرن قد وفر جزءا من القوة التي ستفرض التغيير على الادارة الامريكية والتي شعرت بالحرج والخجل نتيجة الرفض القاطع ومحاولاتها المستمرة لطلب اللقاء مع القيادة الفلسطينية والرفض الدائم من القيادة على عكس ما اعتادت عليه امريكا بسياستها الخارجية وبعلاقاتها الدولية ... اضافة لمسألة هامة تفرض على الادارة الامريكية اعادة التفكير بما سوف تطرح من خلال هذه الصفقة والمستند لحقائق ميدانية في ظل شعب ينتفض ضد المحتل ولا يقبل بالامن له طالما افتقد أمنه واستقراره وحريته .
بكل الاحوال من سيفرض معادلة التغيير مدى قوة ارادتنا ... وحدتنا ... تماسكنا وثباتنا ...وعدم القبول بابتزازنا ... وحتى مساومتنا .
بقلم/ وفيق زنداح