أتيحت لنا هذا الأسبوع، بعد جهد ومحاولات عدة، فرصة الوصول إلى قطاع غزة، بعد انقطاع إجباري دام أكثر من أربع سنوات، منذ أن عشنا مع شعبنا هناك أيام العدوان الهمجي في عام 2014.
وكان علينا، أن نسافر لثلاثة أيام عبر مصر الشقيقة وسيناء ومعبر رفح، بدل سفر لم يكن يحتاج في الماضي إلى أكثر من ساعة ونصف الساعة، بسبب الحصار المفروض على قطاع غزة، وبسبب منعنا لسنوات من المرور عبر معبر بيت حانون (إيرز).
ما رأيناه في غزة من مشاركة جماهيرية عارمة في مسيرة العودة وكسر الحصار، التي تمثل نموذجاً متقدماً للمقاومة الشعبية، ذكرنا بمظاهر الانتفاضة الشعبية الأولى.
وما جسدته مشاركتنا في تلك المسيرة، كان وحدة المقاومة الشعبية في الضفة بما فيها القدس ومع نظيرتها في قطاع غزة، وتلاحم أبناء الشعب الفلسطيني وبناته في الخان الأحمر وكفر نعمة وراس كركر وكفر قدوم والقدس والخليل، مع إخوتهم في جباليا وشرق غزة والبريج وخزاعة ورفح وغيرها.
وهو تلاحم يؤكده أيضاً الإجماع الوطني والسياسي من مختلف القوى الفلسطينية على خيار المقاومة الشعبية، وإجماع لمسناه في لقاءاتنا بممثلي القوى كافة وألوان الطيف الفلسطيني على أهمية المحافظة على الطابع الشعبي للمقاومة الشعبية وتجنب الانزلاق نحو أي مظاهر تضعف قدرتها على التأثير أو تجنيد ضغط عالمي على حكام إسرائيل.
ما رأيناه وما سمعناه من كل قوى غزة وأهلها، هو إصرار على أنه لا دولة فلسطينية من دون غزة، ولا دولة في غزة منفصلة عن بقية فلسطين، ورفض حازم لصفقة القرن وما تحمله من محاولات خبيثة لتصفية عناصر القضية الفلسطينية، وإصرار على حماية حقوقنا وفي مقدمها القدس وحق العودة المقدس للاجئين.
وكان إطلاق اسم القدس على أكثر من مسيرة من مسيرات العودة، تعبيراً عن الإيمان والإرادة الشعبية الحاسمة في إصرارها على وحدة الوطن الفلسطيني.
ولعل الاحتلال كان أكبر المتفاجئين مما جرى يوم الجمعة الماضي في المسيرة الأسبوعية التي حملت عنوان انتفاضة القدس، فقد توهم أن المشاركة الشعبية ستتراجع، ففوجئ بمد شعبي غير مسبوق، ورد على ذلك بوحشية وبارتكاب جريمة حرب جديدة، متعمداً إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين العزل، فاستشهد سبعة شهداء على الأقل وقد يرتفع عددهم إلى عشرة، وجرح ما لا يقل عن 250 متظاهراً أغلبهم بالرصاص الحي والذي يحرم القانون الدولي والإنساني استخدامه ضد المتظاهرين العزل وكان بين الجرحى 50 طفلاً وصحافيون ومسعفون.
ومع نهاية الأسبوع كانت غزة قدمت منذ مسيرتها الباسلة في يوم الأرض، ما يزيد على 200 شهيد ويتجاوز 22 الف جريح، منهم 5 آلاف أصيبوا بالرصاص الحي، وبينهم 80 شاباً بترت أطرافهم.
وجاء خبر استشهاد عائشة الرابي من بديا على يد مستوطنين مجرمين ليذكر الجميع بوحدة المعاناة على يد الأعداء ذاتهم.
ومع ذلك، فإن غزة لم تنكسر، مثلما لم ينكسر الخان الأحمر، وكل مواقع المقاومة الشعبية.
في رفح وخان يونس رأينا وحدة وطنية تجمع كل الطيف الوطني، بما في ذلك «فتح» و «حماس» وكل القوى، ونتمنى أن تنتقل عدواها إلى الأعلى لينتهي الانقسام وتتحقق المصالحة.
في مسيرة غزة رأينا رجالاً وشيوخاً ونساءً بالآلاف، رأينا أطفالاً يحاول أهلهم جاهدين حمايتهم بكل الوسائل وهم يلعبون في شوارع غزة وعلى شواطئها، ورأينا آلاف الأطفال المصرّين على الفرح والاستمتاع بالحياة برغم شظف العيش وضيق الحال، وتفشي البطالة المرعب، وانقطاع الكهرباء، وتلوث المياه، وتدفق المجاري غير المعالجة إلى البحر.
في غزة رأينا الإصرار العنيد على الحياة، وعشنا لحظات مذهلة مما بدا تلاحماً أخاذاً بين الضفة والقطاع، فيما صار واضحاً أنه الضمانة الوحيدة لكسر الحصار الاسرائيلي الظالم على شعبنا هناك.
مصطفى البرغوثي