لم أجد عنواناً لهذا المقال أفضل من تشبيه واقع الحال المماثل لحركة السوق المعاصر حيث أضحت حياة الإنسان والمجتمعات في القرن الحادي والعشرين سلعة معروضة للمساومة ، تحددّ قيمتها الفعلية مبدأ العرض والطلب وسطوة التاجر القرش الذي يسيطر على مجريات حركة السوق بغض النظر عن القوانين والعدالة وحقوق الإنسان إلى جوانب أمور أخرى هي بمثابة مكمّلات عرض تسويق البضاعة أي بمعنى قوة الدعاية التي تستجـلب أكبر عددٍ من التجار الصغارالذين لايقوون على المنافسة لكنهم جزء من التوليفة المطلوبة ، علـّهم ينالون فتات نصيبهم في حال انسحابهم من المزاد العلني المُتفق عليه ، هكذا هو حال قضية تصفية المغدورالسعودي الصحفي جمال الخاشقجي الذي كان أداة من أدوات أعمدة النظام ذو الميول الإخواني ، ثم لاقى مصيره البشع على أيدي أجهزة الإستخبارات داخل القنصلية السعودية في استطنبول العاصمة الإقتصادية والسياحية لتركيا ، لا لذنبٍ اقترفه سوى الإحساس بالخطر وعدم مقدرته على الإستمرار ضمن إطار المتغيرات الجذرية في المملكة المنغلقة على نفسها منذ نشأتها ، وهذا أمر طبيعي يحصل عند الإنتقال من مرحلةٍ بائدةٍ لأخرى إذ يجد هؤلاء أنفسهم من غير العائلة المالكة خارج ولاءات المعادلة الجديدة وبالتالي يكونوا ضمن قوائم الإستهداف ولو بعد حين أو هكذا يعتقدون مايجعل الحفاظ على حياتهم ومصالحهم المكتسبة في مقدمة أولياتهم ، لهذا يصبح خروجهم من بلادهم خيار وحيد لابد منه بغض النظرعن التبريرات المتفاوتة بينهم.
إن مايثير الدهشة حقاً ذلك التهويل غير المتوقع المتنامي الأطراف ليس دفاعاً عن إنسانية الإنسان بحد ذاتها إنما لأغراض الإستثمار السياسي ونستطيع أن نلاحظ ثلاث أطراف متنافسة لكنها تقاطعت وأدلت بدلوها في قضية الخاشقجي وساهمت بإخراج المسرحية الرديئة التي سوف تؤدي حتماً بالتضحية بمجموعة من الإشخاص قرابين للجريمة المتوحشة ، الأول الذي يجد ضالته بفرض المزيد من الإبتزاز وعقد الصفقات المليارية المختلفة تقوده أمريكا ومن يدور في فلكها ، والثاني إما لغرض الإنتقام وتصفية الحسابات كما فعلت قناة الجزيرة القطرية حيث جنـّدت كل طاقاتها المادية والمعنوية لأجل التشفي تارةً وإدانة العائلة المالكة السعودية وتجريم ولي عهدها الأمير المغامر محمد بن سلمان تارةً أخرى ، أو الذي يبحث عن حصة للخلاص من أزماته الإقتصادية الخانقة بما فيه السلوك الهاديء المدروس لتركيا التي عقدت صفقة مريبة مع الإدارة الأمريكية بشأن إطلاق سراح القس الأمريكي المُتهم بالتجسس عشية الجريمة ، حيث تم الأمر دون ضجيج ، بعد الشعارات النارية التي أطلقها الرئيس اردوغان عن استقلال القضاء وعدم تدخل السلطة التنفيذية بشأن قراراته ، غير أن الواقع أثبت هزلية المواقف الشعبوية المعلنة التي تتناقض كلياً مع حقيقة خفايا الأمور وبالتالي لايزال الرئيس التركي يناور ويرسل اشارات غامضة ومتناقضة لكسب أفضل العروض ثمناً لقاء الجريمة المسكوت عنها ، والثالث الذي لاحول له ولا قوة وليس أمامه من بدّ سوى التكيـّف مع الرواية الرسمية السعودية المُربكة مهما كانت مقنعة من عدمها بغية الحفاظ على مصالحها .
لقد أظهرت الحقائق بما لا يدع مجالاً للشك العجز والنفاق الدولي تجاه أخطاء "الكبار" واتباعهم الصغار حيث يمكن تغطيتها وفق معادلات مزدوجة المعايير أمام مرأى العالم قاطبة أساسها تقديرات الربح والخسارة ليس مايتعلق بقضية الخاشقجي حسب ، بل بمجمل الأمور الأخرى التى تنسحب على قضايا الشعوب العادلة وأهمها القضية الفلسطينية ، حين نرى توحش وهمجية الإحتلال الإسرائيلي الذي يعتبر نفسه فوق القانون الدولي وعصي على المسائلة والمحاسبة تجاه عدوانه على الشعب الفلسطيني إذ يتعرض لأبشع انواع القهر حيث يُقتل الأطفال بدم بارد، وكذلك هدم البيوت واستهداف كافة مناحي الحياة وكذا المقدســات الإسلاميـة والمسيحية دون اكتراث
المجتمع الدولي سوى بعض المطالبات الخجولة بالرغم من القرارات والقوانين الأممية الواضحة التي تجرّم عدوان سلطات الإحتلال بحق الإنسان الفلسطيني وممتلكاته وسرقة أراضيه تحت ذرائع لايمكن لعاقل الإقتناع بها ، ومع ذلك يصاب الجميع بالخرس والتعامي عن جرائم حكومة الإحتلال خشية الإتهام بمعاداة السامية ، حتى وصل الأمر إلى مقايضة الحقوق الفلسطينية المشروعة بالشأن الداخلي الإنتخابي للدول المستبدّة من أجل التوظيف لكسب أصوات قوى النفوذ الصهيوني كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية وأوستراليا وغيرهما في عرض بازار رخيص غير أخلاقي يقايض نقل سفارات بعض الدول المتواطئة إلى القدس المحتلة التي لاتمت للشؤون المحلية الداخلية لهؤلاء بصلة ، مقابل استمالة بعض الفئات الإجتماعية العنصرية الأمرالذي يندرج تحت عنوان البلطجة والإستخفاق بالقانون الدولي .
ربما تكون منظمات حقوق الإنسان الدولية المتعددة طالعت باهتمام بعض الإنتهاكات هنا وهناك وأهمها منظمة "هيومن رايتس ووتش" التي تؤشر في تقاريرها الدورية على اخفاقات الدول تجاه احترام القوانين الوطنية المنصوص عليها فضلا عن القانون الدولي والإنساني ، لكنها لاتزال دون المستوى المطلوب من حيث الإستقلالية والحيادية إذ يتوجب عليها تركيز الإهتمام على القضايا الأكثر خطورة على مسار السلم والأمن الدوليين ، ومنها تصفية الإستعمار الذي لم يتبقى منه سوى احتلال الأراضي الفلسطينية في العصر الراهن ومعاناة أكثر من خمسة ألاف أسير فلسطيني وحرمانهم من أبسط حقوقهم ومعاملتهم كأسرى حرب وفق معاهدة جنيف وملحقاتها ذات الشأن بحقوق الأسرى ، وخطورة إقرار القوانين العنصرية الصهيونية تجاه أصحاب الأرض الحقيقيين بدلاً من انشغالها المبالغ به داخل الأراضي الفلسطينية حول بعض الإنتهاكات التي ينبغي أن لاتكون ولابد من معالجتها ومحاسبة مرتكبيها ، مع الأهمية البالغة لضرورة الرقابة الدائمة لانتهاكات حقوق الإنسان سواء كانت على مستوى الدول والمجتمعات أو الأفراد أو الممتلكات التي يستبيحها جيش الإحتلال وقتل الإنسان بدم بارد وشراكة قطعان المستعمرين المدعومين بحماية كاملة منه ، وبالتالي فإن قضية "جمال الخاشقجي "غيض من فيض لما حدث خلال العقدين الماضيين من غزو للدول وإزهاق أرواح مئات الألاف من الأرواح البشرية فضلأ عن التدمير الشامل الممنهج لأسس العديد من الدول على أيدي دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان ، وكذا الدول المستبدة التي تنضوي في كنف الحماية والتأييد للولايات المتحدة واتبعاها.
بقلم/ محمد السودي