ودعت البرازيل يوم أمس ثلاث عشر عاما من حكم اليسار، بفوز المرشح اليميني الشعبوي " جايير بولسونارو " على منافسه اليساري ذو الأصول العربية فرناندو حداد، لتدخل أكبر دول أمريكا اللاتينية، ورابع أكبر ديمقراطية في العالم، في اختبار كبير، وتخوفات حقيقية على مستقبل الديمقراطية، والحقوق المدنية، والسلم الأهلي في البلاد، فيما من المتوقع أن تقود نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة إلى تحولات جذرية في السياسة الخارجية البرازيلية، بما في ذلك مواقف البرازيل تجاه القضية الفلسطينية .
ترامب البرازيل
أطلقت عددا من وسائل الإعلام على "بولسونارو" لقب " ترامب البرازيل" نظرا لمواقفه الشعبوية، وتصريحاته المثيرة للجدل، التي تمتد لقضايا الحكم، والمرأة، وحقوق الإنسان، وموقفه من المثلية الجنسية، والحريات، إذ يفخر رجل الأمن السابق بانتمائه لحقبة الحكم الديكتاتوري العسكري للبرازيل 1964- 1985، بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب "جواو جولارت"، والتي تميزت بالتعذيب الممنهج، وقمع المعارضين، وفرض حالة الطوارئ على البلاد، وحرمان المواطنين من حقوقهم السياسية، وانتهاج سياسات قمع ممنهجة ضد المعارضين، لا سيما المنظمات الشعبية، والكتّاب، وقادة الرأي العام، والمنظمات الطلابية اليسارية، إذ تشير مجلة التايمز في تقرير لها عن " بولسونارو "، بأنه صرح للإعلاميين عام 2017، " أنا عسكري، ومهمتي هي القتل "، كما أنه دعا عام 1991، بعد انتخابه عضوا في البرلمان إلى عودة الحكم العسكري، إذ يرى فيه ضرورة ملحة لتجنب " ديكتاتورية البروليتاريا"، ويشير دوما هو وأنصاره بيده على شكل مسدس علامة على موقفه هذا، كما أنه لا يخفي إعجابه بالدكتاتور التشيلي "أوغستو بينوشيه"، والرئيس الفلبيني "رودريغو دوتير" ، على الرغم من سجل نظاميهما الحافل بقتل المعارضين، واغتصاب النساء، وقمع المعارضين، وحجب الحريات .
يتبنى بولسونارو مواقف مطابقة لتلك التي يتبناها ترامب، من اتفاقية باريس المناخية، حيث أعلن نيته الانسحاب منها حال فوزه برئاسة البرازيل، وأشار إلى نيته تبني سياسات بيئية أقل تشددا من تلك التي تبناها أسلافه، كما يتشارك الرجلين في عدائهما لوسائل الإعلام، واتهامهما بتقويض خطواتهما، وعرض صورة خاطئة عنهما للرأي العام، ودعوتهما إلى تخفيف قوانين حيازة الأفراد للأسلحة، ونظرتهم الدونية للنساء، إذ يرى بولسونارو، أن الفارق بالأجور بين الرجال والنساء هو أمر مبرر، وقد سبق أن خاطب إحدى عضوات البرلمان : لن أقوم باغتصابك لأنك لا تستحقين ذلك "، كما يستلهم " بولسونارو " نهج ترامب في سياساته المالية، ورؤيته حول قضايا التجارة والتخلص من البيروقراطية، كما أنه يتبنى مواقف مناهضة للاجئين إذ قال عنهم عام 2015، "قذارة الأرض بدأوا يظهرون في البرازيل، وكأننا لا نملك مشكلات كافية"، علما بأنه هو نفسه ينتمي لأسرة هاجرت من إيطاليا إلى البرازيل، كما أنه هاجم البرازيليين من ذوي البشرة السمراء قائلا، "البرازيليون السود لا يساهمون بأي شيء، أعتقد أنهم غير صالحين حتى للتزاوج والإنجاب بعد الآن".
وهو لا يخفي إعجابه بترامب، إذ رحب بتشبيهه به لصحيفة التايم قائلا . " لست أغنى منه. هذا كل ما لا يعجبني "، حيث صرح " باولو سوتيرو: مدير معهد البرازيل في مركز ويلسون الدولي بأن هذا الشخص الذي أبدى إعجابه بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد أشعل موجة الاستياء "واستشعر ضرورة التغيير في البرازيل".
استغلال شعبوي للأزمات المتفاقمة
لقد نجح " بولسونارو " كغيره من قوى اليمين الشعبوي التي تجتاح أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، من استثمار الأزمات المركبة التي تعاني منها البرازيل، لبناء قاعدة انتخابية عريضة، مكونة من قطاعات متنوعة من السكان، مكنته من الفوز بانتخابات الرئاسة، بعد مسيرة حزبية حافلة تنقل خلالها بين الحزب الديمقراطي المسيحي، والحزب الإصلاحي، وحزب العمال البرازيلي، وحزب الجبهة الليبرالية، والحزب الاشتراكي، وأخيرا الحزب الاشتراكي الليبرالي البرازيلي الذي انتمى له في العام الجاري 2018 .
حيث نجح في تأليب الرأي العام تجاه سياسات الرئيس الأسبق "لولا دا سيلفا" وحزب العمال الذي حكم البلاد خلال الفترة 2003 – 2016،محملا إياه عبئ الأزمات التي تعاني منها البرازيل اليوم، إذ يرزح ما يزيد عن 13 مليون عاطل عن العمل في البرازيل، في ظل استشراء الجريمة، وعنف الشوارع، والفساد الحكومي، وتعطل الخدمات العامة، وشلل المؤسسة العامة، وفشلها في تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، حيث سيارات الشرطة غير قادرة على التزود بالوقود، ونقص الأدوية الأساسية في المراكز الطبية، ومقتل 63880 في ظل استشراء ظاهرة العنف التي تجتاح البلاد، مما تسبب بأسوأ حالة ركود اقتصادي في تاريخ البرازيل، قادت إلى اضمحلال مستويات ثقة المواطنين بالأحزاب السياسية، إذ أشارت استطلاعات الرأي إلى أن سبعة من كل عشرة مواطنين في البرازيل، لا يثقون بأي حزب سياسي، وبأن نظام الحكم الديمقراطي أضحى هو المفضل لما لا يزيد عن 56% من السكان، مقابل قبول 44% من السكان بأي نظام اخر، يحقق لهم احتياجاتهم الأساسية، ويشعرهم بالأمان.
في ظل هذه البيئة غير المستقرة، وفي ظل تورط عدد من القيادات السياسية بقضايا فساد ضخمة، بما في ذلك الرئيس الأسبق" إيناسيو لولا دا سيلفا"، الذي صدر قرار بسجنه لاثنا عشر عاما، ومنعه من المنافسة في الانتخابات الأخيرة، قدم
"بولسونارو " نفسه على أنه الرجل الحديدي، القادر على إنقاذ البلاد من أزماتها، والقضاء على الفساد، والعنف المستشري، والجريمة المنظمة، وانقاذ الاقتصاد المتداعي، عبر تبني خطاب يجمع بين الشعبوية، والمحافظة على القيم الأسرية التقليدية، ووصايا الكتاب المقدس، مما مكنه من الحصول على دعم الكنائس الإنجيلية، والجماعات المؤيدة لحمل السلاح وشركات المنتجات الغذائية الزراعية، والبورصة، والشباب، إذ أن ما يزيد عن 60% من مؤيديه تحت سن 35عام، أي أنهم لم يعانوا من سياسات الحكم العسكري الإستبدادي، ولم يعاصروه، كما أنه استطاع تقديم نفسه على أنه القائد القوي، الذي لن يتردد في استخدام العنف المفرط ضد الجريمة، وعنف الشوارع، عبر استغلال لافت لوسائل التواصل الاجتماعي، مستغلا خوف المواطنين، وحاجتهم الماسة للشعور بالأمن المفقود، إذ صرح خلال حملته الانتخابية "لا بدّ أن يُعامل المجرم بصفته مجرماً، لا إنساناً، فإذا كان يحمل مسدساً وجبت مواجهته بالبندقية، وإن كان يحمل بندقيةً وجبت مجابهته بالدبابة، لا مجال للحب والسلام مع المجرمين"، كما أنه صرح مرارا تأييده قتل أي شخص يشتبه في انتمائه لعصابات المخدرات أو أي عصابة إجرامية مسلحة، الأمر الذى منحه هالة القائد القادر على استعادة الانضباط للبلاد، يضاف إلى ذلك أن تاريخه الشخصي، وإن كان موسوما بالانتماء للنظام العسكري، إلا أنه يخلو من أي اتهامات بالفساد الذي يحيط بغيره من السياسيين في البرازيل.
انحياز كامل لإسرائيل
من المتوقع أن يتغير الموقف البرازيلي تجاه القضية الفلسطينية بفوز " بولسونارو" ، إذ أن سياسة التنديد بجرائم الاحتلال واتخاذ خطوات عملية على غرار سحب السفير البرازيلي إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2014، وقيادة الجهود داخل أمريكا اللاتينية نحو الاعتراف بدولة فلسطين، من غير المحتمل أن تستمر خلال فترة حكم "بولسونارو"، بل إن السيناريو الأسوأ يبدو أكثر واقعية في هذا الشأن، إذ وعد " بولسونارو" خلال حملته الانتخابية بإغلاق مقر السفارة الفلسطينية لدى بلاده حال فوزه في الانتخابات الرئاسية المقبلة، إذ قال في هذا الشأن " لقد تفاوض الرئيس ديلما مع فلسطين لكنه لم يتفاوض مع الشعب الفلسطيني، فلا يمكن للمرء أن يتفاوض مع إرهابيين"، مؤكدا بان زيارته الأولى ستكون لإسرائيل حال فوزه في الانتخابات الرئاسية، بل أنه أشار إلى نيته اتخذا قرار بسحب عضوية البرزيل من الأمم المتحدة واصفا إياها بتجمع للشيوعيين، مستعرضا علاقته المميزة وصداقته الراسخة مع اسرائيل، في العديد من لقاءاته الانتخابية.
المطلوب تحرك فلسطيني سريع
سيستلم الرئيس " بولسونارو" سلطاته الدستورية في بداية العام المقبل، وقد أبدى خلال تصريحاته التي أعقبت إعلان فوزه في الانتخابات تصريحات تطمينية، تؤكد التزامه بالدستور، والديمقراطية، وبأنه سيكون رئيسا لكل المواطنين، كما أنه خالف أولى وعوده الانتخابية إذ أعلن أنه سيزور تشيلي والولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم اسرائيل، علما بأنه أكد بأن اسرائيل ستكون المحطة الخارجية الأولى له، مما يؤكد أن قمح الحكم يخالف زوان المعارضة، وان تصريحات الحملات الانتخابية تختلف عن سياسات الحكم، وهو الأمر الذي يتعين علينا فلسطينيا أن نستثمره جيدا، من خلال استثمار المصالح العربية البرازيلية، وحجم التبادل التجاري للبرازيل مع الدول العربية، التي تربط بعلاقات ثقافية، وحضارية، واقتصادية ببعضها البعض، وتجنيد رأس المال الفلسطيني، والعربي، والقوى التقدمية، في البرازيل، من أجل كبح جماح " بولسونارو" في تأييده لإسرائيل، لا سيما وأنه سيكون صديقا مقربا من ترامب، الذي هنأه بفوزه مبكرا، كما أنها مناسبة هامة، لإعادة الاهتمام بأمريكا اللاتينية، التي تجتاحها القوى الشعبوية اليمينية، التي لا تفهم سوى لغة المصالح، والأرقام، والتي من الهام للغاية أن نجيدها، حتى لا نبكي على أطلال أمريكا اللاتينية التي ناصرت شعبنا لعقود طويلة .
بقلم/ رائد الدبعي