الشهداء لا يعودون، دون أن نعتذر للطاهر وطار، لكنهم أيضاً لا يغيبون. وإذا كان الأمر كذلك فهم وحدهم من يملكون الحق في محاكمة واقعنا. لهم وحدهم الحق في أن يقرروا مدى صدقنا وقربنا من الأحلام التي كانوا عليها ومضوا في طريق الوصول لها. لذا علينا أن نخجل لو عادوا، وعلينا ان نصر أنهم لا يعودون. وعلينا أن نواصل عنادنا أنهم غائبون لأن حضورهم يكشف سوء الحال وبشاعة المآل. فقط في الخطب وفي المؤتمرات ومن خلف المايكروفونات نستحضرهم ونقول إنهم أحياء ونتحف كلامنا بآيات من الذكر الحكيم وقول السلف الصالح ومآثر الشعراء. لكننا نتصرف غير ذلك. فلو كانوا معنا لحافظنا على ما تبقى من أحلامهم. لعملنا من اجل ألا نستفز أرواحهم في مراقدها. لكننا نبرع في دفن كل ذلك وفي البحث عن أحلامنا لا أحلامهم. أحلامنا التي تنمو تحت أرجلنا وبين أيدنا ولا تتسلق مثل لبلابة جدران المستقبل. ما أبخس الأثمان حين لا نقع في سوق المبادلة والمقايضة. الحلم عملة نادرة لا تتحقق إلا بإيمان صاحبها بها. لا حلم بلا حالم. ولا حالم بلا حلم يسعى وراءه. اما من يدفنون أحلامهم ويهتفون بها، دون ان يدركوا أنهم يرثونها، فأولئك الذين يحولون الأحلام إلى مقاصد أخرى.
ماذا يمكن أن نقول لهم. ماذا يمكن أن نقول لرزان النجار ولأحمد أبو حسين وللطفل محمد أيوب الآن بعد أشهر من رحيلهم وهم يرفعون راية العودة بعد أن بات مطبنا رغيفاً من الخبز.
عزيزتي رزان، عزيزي أحمد، عزيزي محمد، نحن متأسفون. سامحونا لو قليلاً. لكن على الأقل دعونا نكذب على انفسنا ونقول لكم اننا حققنا ما خرجتم من اجله. كان ذنبكم أنكم صدقتم، أم كان خطأنا لأننا كذبنا. لا يهم كثيراً، الذي يهم أننا نفعل ما يحلو لنا. صحيح أننا خرجنا من أجل حق العودة لكن خطر على بالنا أن البقالة على الطريق فيها ما يفتح النفس من خيرات ومن سولار ودولار وان نجني منها ما نستطيع أفضل من ان نرهق انفسنا بالمسير الطويل.
نحن متأسفون لأننا لم نكن على قدر توقعاتكم. كان مسيرنا وسيرنا الهادر للوصول للبيت لا يثير الجلبة في أرواحنا. نسير لأننا نريد أن نسير. وحين يأخذنا الإرهاق ويأكل التعب أجسادنا ويقتات على طاقتنا كنا نستظل بحكايات الشهداء قبلكم عن الرحلة التي لا يجب أن نمل ولا نكل حتى تصل بنا ونصل بها إلى مبتغاها. لم يكن خلف الأكمة ما خلفها. كنا صادقين وكنتم الأصدق لكن ماذا تفعل بإخوة يوسف. لم يجدوا بئراً ليوقعوا أحلامنا فيها، ولا ذئباً ليلطخوا ثيابنا بوهم وجوده. هكذا بكل صلافة وفجاجة أخذوا الطريق إلى حيث يريدون، سحبوا الدلاء من قعر الأمنيات فارغة لأن الأمنيات المعتقة بالأحلام تكشف زيف وعيهم، وضعف إيمانهم بفلسطين.
هل كنا واهمين؟ من الصعب القول بذلك. كنا صادقين. الصدق دلالة الوجود، لأن الحقيقة لا تكون إلا بوجوده. لكن ثمة من يحاول دائماً سرقة الحقيقة. أو تغيير وجهها. هل يمكن تغيير وجه الحقيقة؟ أيضاً سؤال بحاجة لمحاضرات في الفلسفة من اجل الإجابة عنه، لأن تغيير وجهها ينفي وجودها، ولأن الاشتباك من أجل ذلك يفقدها جوهرها. إذا لم نكن واهمين. لأن الوهم أيضاً ليس موجوداً إلا في مخيال نصوص الفراغ. كنا صادقين. لكن أيضاً هناك من يصر على أن نعيش في جلباب وهمه عن انتصارات لا تحدث إلا في مخيلته وفتوحات مكية لم تقع إلا في خلواته ومعجزات ليست أبعد من آخر درجات المنبر الذي يخطب من فوقه.
سامحونا لن نطرق الخزان. ليس أن خزاننا إسمنتي وليس أن الطرق عليه ليس مجدياً، وليس أن الخروج منه مستحيل فالأعداء تكالبوا وتزايدوا ولم يعد من يقول الحقيقة، ولم يعد من ينصف الفتى الفلسطيني من أشرار الحي، بل لأننا لا نريد. نعم لا نريد أن نطرق الخزان. قرار ذاتي. قبلنا بما نحن فيه. يكفينا أن نفاوض أبا الخيزران على مروحة تخفف عنا الحر داخله، أو أن يمد لنا خرطوماً يأتي وأن أبا الخيزران فيما يبول على ناصية الطريق يدنن بحنين أغنية عن السعادة بعد أن أمضى عمره يجمع أرواحنا في خزانه.
علينا ان نعتذر من كل الحكاية ومن كل الحكايات التي سمعناها من أجدادنا حول كانون النار، فالأمر لم يكن أكثر من دموع زائدة ذرفوها وهم يستعيدون خروجهم القسري من التلال والكروم يحملون بقجة الأحلام وزاد الرحلة. كانوا يبالغون وهم يسردون علينا كل تلك الحكايات عن الزمن الجميل الذي تركوه هناك، وعن أحلامهم التي تستوطن الروح. هل فهمنا خطأ ما كانوا يقولون؟ أم انهم كانوا يبالغون في وصف الماضي وفي استلاب الحنين للمستقبل. أم أن أحلامهم كانت أكبر من قدرتنا على النوم الطويل نستجدي الحلم أن يزورنا، لا نعرف أن الأحلام بحاجة لمن يسافر لها، لمن يبحث عنها، لم يحرسها مثل بيت بحاجة لحصان متروك وحيداً. أم لم يكن ثمة أحلام وأننا كنا نسافر في زمن أخر!
لا تخبروا الشهداء بكل ذلك. إن سألوكم قولوا لهم إن القوم على دربهم، وان أحلامهم تحرسها سيوف مشروعة وبنادق مصوبة، اخبروهم أننا نواصل الطريق، ولم يصبنا وهن. أخبروهم أن الناس من بعدهم تكاتفوا وتوحدوا ولم يفترقوا، وباتوا على قلب رجل واحد. اخبروهم ان النصر صبر دقيقة وليس ساعة، واننا قادرون. لا تقولوا شيئاً عما حدث بعدهم ولا تحاولوا ان تتلصصوا علينا لتعرفوا ما حدث بعدكم. المسيرات مستمرة حتى آخر درهم يمكن أن نحصل عليه، وحتى تصل الكهرباء كامل النهار. تخيلوا صرنا نزهق من الكهرباء. لا تتخيلوا كم نشكركم على المنابر فدماؤكم أضاءت لنا الكهرباء.
بقلم/ عاطف أبو سيف